الحركات المتشددة والسلفية في سورية بعد 2011 وتحولات هيئة تحرير الشام

صالح الحموي/ ترجمة فارس جاسم

بدأت “الثورة” السورية، في 18 آذار/ مارس 2011، عندما استخدم النظام القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين، وفي أيار/ مايو 2011، شُكّل الجيش السوري الحر لحماية مناطقهم من هجمات النظام التي أسفرت عن مقتل آلاف المتظاهرين، وقد تحالفت مكونات هذا الجيش على مطالب سياسية من دون أيّ توجه أيديولوجي. حتى هذه المرحلة، لم تكن هناك أي حركة مسلحة سلفية في سورية. وبعد بدء الثورة بأسابيع قليلة، أُطلق سراح مجموعة من 279 شخصًا من سجن صيدنايا، وكان بعضٌ ممن أُطلق سراحهم جهاديين، وبعضهم علماء سلفيون. وكان من بين أبرز الأسماء الشيخ زهران علوش الذي اتُّخذ، من بعد ذلك، مرجعًا دينيًا، ورأَس ما يسمّى “جيش الإسلام”، وأبو عبد الله الحموي الذي أصبح قائدًا لجماعة “أحرار الشام”.

هناك ادعاءان بشأن إطلاق النظام سراح هؤلاء: الادعاء الأول هو أن النظام السوري كان يهدف من خلال هذه الخطوة إلى جعل الثورة حركة متطرفة؛ والثاني أن النظام اضطر إلى اتخاذ مثل هذه الخطوة بسبب قانون “تخفيض مدة الاحتجاز بمقدار ثلاثة أرباع”، الذي أصدره تحت ضغط المتظاهرين.

الهجوم بقذائف المدفعية لوحدات تابعة لأحرار الشام المعارض في جبل الأكراد

وعلى الرغم من أن السبب الأول أُثير كثيرًا، فبعد اندلاع الحركات الشعبية في تونس ومصر وليبيا، تجمعت عائلات المعتقلين في سورية أمام وزارة الداخلية مطالبين بالإفراج عن المعتقلين. وبهذا القرار كان بإمكان النظام أن يخطط لمنع التظاهرات وتخفيف الضغط على نفسه. والمعلومة الأخرى التي تشجع الفرضية الثانية هي أن النظام لم يُفرج عن الجهاديين القادرين على إنشاء تنظيم، حيث إن هؤلاء الجهاديين لم يستفيدوا من القوانين التي أُصدرت، وأُبقوا في السجون.

تأسيس تنظيمات سلفية متشددة في سورية بعد عام 2011

كان الشباب السلفيون والمتشددون الخارجون من سجن صيدنايا، أو الذين كانوا في الخارج ولهم هذا التوجه، يعتقدون أن الطريقة الوحيدة لمواجهة النظام هي بقوة السلاح، وأن التظاهرات السلمية لن تُحدث أي تغيير. لكن هذه الفئة لم ترغب في أن تكون أول من يلجأ إلى السلاح، وانتظرت بدء الجيش السوري الحر في المقاومة المسلحة. في حزيران/ يونيو 2011، أُعلن تأسيس حركة أحرار الشام، بصفتها أول تنظيم سلفي متشدد، وذلك من خلال اندماج تنظيمات صغيرة في مناطق مثل سراقب والغاب ومعرة النعمان. وفي الوقت ذاته تقريبًا، بُدئ بتأسيس تنظيم “جبهة النصرة”، باعتبارها الذراع السوري لتنظيم القاعدة، قبل أن يُعلن تشكيلها في كانون الأول/ ديسمبر 2011.

إن الشباب الذين أسّسوا جبهة النصرة وأحرار الشام كانوا يعرفون بعضهم، وذلك بسبب وجودهم معًا في سجن صيدنايا، أو لأن لديهم التوجه نفسه خارج السجن. وكان قادة التنظيمين على اتصال ببعضهم قبل إعلان تأسيس التنظيمين، حيث أرسل أبو محمد الجولاني (مؤسس جبهة النصرة) رسائل عدة إلى “أبو عبد الله الحموي” زعيم حركة أحرار الشام، أبلغه فيها نيته الجمع بين التنظيمين، وتأسيس جبهة موحدة. غير أن “أبو عبد الله الحموي” رفض هذا العرض، بسبب ثلاث قضايا خلافية رئيسية: الأولى أن قيادة “أحرار الشام” لم ترغب في الانضمام إلى تنظيم القاعدة بشكل كامل ودائم، اعتقادًا منها أن ذلك سيضر كثيرًا بشرعيتها، كما اعتقدت بأن وجود تنظيم القاعدة سيضر الثورة. والثانية أن “أحرار الشام” كانت تخشى تكرار سيناريو تنظيم القاعدة في العراق الذي ارتكب أخطاء كبيرة ضد الجماعات العراقية. والثالثة أن أحرار الشام أرادت تشكيل مجموعة تضم أعضاءها الرئيسيين إلى جانب القوى الثورية الأخرى، حيث إن ذلك يخالف منهجية تنظيم القاعدة الذي يرتبط هيكله التنظيمي بفريق النخبة فقط. وكان “أبو عبد الله الحموي” قد أرسل رسالة إلى قيادة جبهة النصرة مفادها: “يمكننا التعاون في جميع المجالات، في سبيل إسقاط النظام، لكن التوحيد غير ممكن”.

أيديولوجية تأسيس أحرار الشام

قبلت “أحرار الشام” الفكر السلفي المتشدد في مرحلة التأسيس، مع الاستثناءات المذكورة في الأدنى. وكانت ترى مفهوم “البيعة” سنّة لا واجبًا. والاختلاف الثاني هو قضية العلم، فعلى الرغم من أن الحركة لم تكن تعتقد أن العلم ضروري للإعلان والتعبير عن الرأي والتوجه، وجدت أن من المناسب استخدامه ضمنيًا، واعتبرته كافيًا لإعلان هدف إسقاط النظام. بالإضافة إلى أن أحرار الشام كانت ترفض العمليات الانتحارية، ليس لأن ذلك غير جائز، بل لاعتقادها أن هذه العمليات هي سبب الفساد، لأنها ارتبطت بالقاعدة وتنظيمات مماثلة. وبصرف النظر عن نقاط الاختلاف هذه، اتخذت حركة أحرار الشام الفكر الذي تبناه تنظيم القاعدة، والهيكل الثوري الوطني، والأسس التي بُنيت عليها مؤسسات الثورة بشكل عام. بالإضافة إلى أن الحركة رأت أن علم الجيش السوري الحر هو غير شرعي، وأن “الجهاد” هو السبيل الوحيد لإطاحة النظام، حيث كانت تعتقد أن الغرض من الجهاد هو “تحكيم الشريعة وتعزيز سلطة الله على الأرض”.

الاشتباكات بين الفصائل المناهضة للنظام في سورية

وانضم العديد من مكونات “الجيش السوري الحر” في الأرياف إلى حركة أحرار الشام، بسبب الأسلوب التنظيمي الذي تبنته الحركة، حيث إن قواعد الانضمام لها مرنة، ونهجها الإداري لا يحتكر النخب. وعلى الرغم من أن الذين انضموا إلى الحركة هم أناس عاديون، فإنهم قد دُرّسوا الكتب السلفية والشرعية في المعسكرات بشكل مكثف. وبالإضافة إلى الدورات الفكرية والتعليمية، تسببت الدروس العقائدية التي تلقاها العناصر في مقارّ أحرار الشام بانتشار هذا الفكر بين أقارب ومعارف هؤلاء العناصر، مع مرور الزمن. وفي أواخر عام 2012، كان أكثر من نصف مقاتلي حركة أحرار الشام، وعددهم أكثر من 12 ألف مقاتل، قد تبنّوا الفكر السلفي المتشدد، في حين كان النصف الآخر قد تبنّى هذا الفكر بشكل جزئي، ولم يجعله عقيدة ثابتة.

التحول الفكري لدى حركة أحرار الشام

عقد قادة أحرار الشام سلسة من الاجتماعات مع المفكرين والباحثين في الفكر الإسلامي من أجل “حلم الأمة” المتصاعد. ومن خلال هذه الاجتماعات، تم اللقاء بـ “حاكم المطيري” من دول الخليج، و”أبو منذر الساعدي” من ليبيا، وزعماء الجماعات الجهادية الإسلامية التي تحارب الولايات المتحدة في العراق، وزعماء الجماعات الإسلامية في مصر، إضافة إلى علماء سلفيين. وقد تأثرت حركة أحرار الشام بآراء قادة هذه المجموعات والجماعات، ونتيجة هذه اللقاءات، حدثت انكسارات في أيديولوجية الحركة السلفية، وظهرت أفكار جديدة لا تتوافق مع العقيدة التي أُسّست عليها. وشملت هذه التغييرات أيضًا “قبول المساعدات المالية واللوجستية من الدول، ومنها الدول غير الإسلامية، والانضمام إلى المجالس العسكرية التي أُنشئت في المناطق الخاضعة للائتلاف الوطني المعارض”.

في عام 2013، تسببت التغييرات الفكرية في حالة شقاق بين النخب داخل التنظيم، إلى أن أصبحت الرؤية النهائية واضحة تمامًا. وفي عام 2014، أوضحت أحرار الشام توجهها بإعلان “عهد الثورة” الذي هو بمنزلة إعلان التخلي عن النهج السلفي المتشدد. وكانت التغييرات الرئيسية التي قام بها التنظيم كما يلي:

  • – الموافقة على وجود برلمان إسلامي من خلال خوض الانتخابات بعد سقوط النظام، كما الحال في الدول العربية.
  • – قبول إدخال الشريعة في الدستور من خلال التخلي عن تحكيم الشريعة في إطارها التقليدي.

جبهة النصرة والنهج الجديد

كان لجبهة النصرة النهج الإستراتيجي نفسه الذي اتبعه تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” الذي أُسّس على أيديولوجية سلفية متشددة، واستمرّ من عام 2004 حتى 2011. لكن الجبهة بقيادة أبو محمد الجولاني، قررت بعد نقاشات جدية عدم تكرار الأخطاء الخمسة التي وقعت فيها “الدولة الإسلامية في العراق”:

  • – عدم إعلان الارتباط بتنظيم القاعدة طوال عشرة أعوام على أقل تقدير، بسبب ظروفها في سورية.
  • – عدم تنفيذ العمليات بالسيارات المفخخة أو بالعبوات الناسفة في مناطق سيطرة النظام والمدن، وذلك حفاظًا على حياة المدنيين.
  • – عدم التدخل في شؤون المدنيين والإدارات في المناطق المحررة، وترك إدارة المنطقة للأهالي.
  • – عدم إبراز المقاتلين الأجانب في مناصب مهمة، وعدم السماح لهم بالاحتكاك مع الأهالي.
  • – عدم الاشتباك مع أي فصيل في سورية.

في إطار هذه الشروط، كانت جبهة النصرة تحتوي على 25 عضوًا فقط عند تأسيسها، وهؤلاء كانوا أمراء للمدن في البداية. وكان لدى كلّ أمير 5 أو 6 عناصر سلفيون متشددون، جلّهم من الذين خرجوا من سجن صيدنايا. واعتمدت جبهة النصرة ثلاثة مستويات لقبول المقاتلين: الأول أولئك الذين كانت لديهم فكرة السلفية المتشددة، ولهم خبرات سابقة في الجهاد والسجن؛ والمستوى الثاني أولئك المتشددون السلفيون؛ والمستوى الثالث، المجندون ذووا الاتجاه السلفي بشكل عام. ومع ذلك، بعد إنشاء التنظيم وتوسيع نطاق نفوذه، أُنشئ مستوى رابع، وجُنّد فيه الأشخاص العاديون القادرون على إدراك حساسية أيديولوجية الجبهة. بالإضافة إلى ذلك أُنشئ مستوى خامس يضم المؤيدين للجبهة، وإن لم يبايعوها، وهؤلاء المؤيدون ساعدوا جبهة النصرة ضد النظام.

على الرغم من أن جبهة النصرة قررت عدم الوقوع في أخطاء “الدولة الإسلامية في العراق”، فإنها كررت العديد من هذه الأخطاء في فترات متعددة، حيث نفّذت الجبهة هجمات على أماكن مثل المباني العسكرية ومبنى وزارة الداخلية في دمشق، وعلى العديد من المخافر في حلب وحماة، بالإضافة إلى سيطرتها على اللواء 111 وكتيبة الصواريخ في الطعانة في حلب. من ناحية أخرى، اكتسبت جبهة النصرة شعبية كبيرة من خلال قوة عملياتها العسكرية الساحقة، والابتعاد عن بعض الأشياء، مثل التدخل في شؤون المدنيين والاستيلاء على الغنائم. لكن الصعود الكبير لجبهة النصرة كان من خلال إدراج الولايات المتحدة لجبهة النصرة على لائحة الإرهاب، حيث نُظمت تظاهرات تحت شعار “كلنا جبهة النصرة”. في ذلك الوقت أيضًا، انتقد جورج صبرا رئيس المجلس الوطني، ومعاذ الخطيب رئيس الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة، إدراج الولايات المتحدة جبهة النصرة على قائمة الإرهاب، حيث دافعا عن الجبهة بالقول: “جبهة النصرة هي فصيل محلّي يهدف إلى إسقاط النظام، ويتبع أعضاؤه سياسة ناضجة وحساسة، ويمتنعون عن تعريف أنفسهم بالذراع السوري لتنظيم القاعدة، ولا تستقطب الجبهة المقاتلين الأجانب، ولا تتدخل في شؤون المدنيين”.

تأثير جبهة النصرة في نشر السلفية المتشددة في سورية حتى عام 2013

بحلول منتصف عام 2012، أصبحت جبهة النصرة قوة عسكرية فعّالة على الأرض، وازدادت حاجتها إلى المسلحين. في هذا السياق، بدأت الجبهة تلبي هذه الحاجة من خلال دمج بعض العناصر القريبة من الشعب، والتي ليس لها أيديولوجية محددة. وقبل ضمّ هؤلاء العناصر، قدّمت لهم دروسًا في السلفية المتشددة في معسكراتها، حيث خرّجوا في تلك المعسكرات عناصر سلفيين متشددين. وبسبب معايير الانضمام التي طبّقتها الجبهة، اقتصر عدد هؤلاء المقاتلين، بين عامي 2013 و2014، على 1000 شخص فقط.

الاشتباكات بين أحرار الشام وهيئة تحرير الشام

لم تنبع مشكلات جبهة النصرة مع تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”، الذي انبثقت منه الجبهة، من أسباب أيديولوجية، بل كانت إدارية. في نهاية عام 2012، كان هناك خلافات بين الأمراء الذين أرسلهم تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” وبين كوادر جبهة النصرة، وذلك في مسألة مناطق النفوذ، ولا سيّما في حلب ودير الزور. ونتيجة لهذه النزاعات، أرسل تنظيم “الدولة الإسلامية” أبو علي الأنباري، المعروف باسم “أبو صهيب العراقي”، إلى سورية على أنه المسؤول الأعلى سلطة من الجولاني. فمن جهة تمت محاولة حلّ الخلافات بين الجولاني والأنباري، ومن جهة أخرى حُلّت الخلافات بين القائد حاج بكر ونائب أمير حلب والقيادة السورية في حلب. غير أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل، وانقسمت جبهة النصرة بين فصيل تحت قيادة أبو علي الأنباري الذي عينه تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”، وفصيل سوري تحت قيادة الجولاني. وفي عام 2013، اتُخذت قرارات لحل الخلافات، من خلال إجراء اجتماع ضمّ زعيم تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” البغدادي. كانت الخلافات بين جبهة النصرة وتنظيم “الدولة الإسلامية”، الذي يريد التحكم بالجبهة، تتركز على قضية أساسية، وهي انفصال الجبهة من تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”، والارتباط بتنظيم “القاعدة”. لذلك، تعيّن على تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” إنشاء كوادر عراقية، من خلال تعيين نواب أمراء عراقيين في مناطق سيطرة النصرة.

ونتيجة هذه المخاوف، تحرك تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” لتقييد الجولاني بفرض سياسة الأمر الواقع، حيث أعلن تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”، في 9 نيسان/ أبريل 2013، من خلال تسجيل صوتي للبغدادي،  قيام “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. وبعد يوم واحد، أصدر الجولاني بيانًا رفض فيه الاندماج، وأعلن ولاءه للظواهري. ومع ذلك، لم يكن هناك خلاف أيديولوجي بين جبهة النصرة و(داعش). ولم يكن تنظيم داعش يعترض على عدم تحديد جبهة النصرة حدودًا لها في المناطق المحررة، أو التعاون مع تنظيم “أحرار الشام” أو التنظيمات الأخرى. وكان الجولاني قد سلّط الضوء على ذلك خلال مقابلة أجراها معه تيسير علوني على قناة الجزيرة، حيث وصف الخلافات بين جبهة النصرة وداعش بأنها “خلافات داخلية”.

عندما بدأت الخلافات مع داعش، كان عدد عناصر جبهة النصرة حوالي ثلاثة آلاف مقاتل، بينهم نحو 1200 مقاتل أجنبي. غير أن ثمانين في المئة من عناصر النصرة أعلنوا ولاءهم لداعش، بعد أن أعلن الجولاني أنه ينتظر ردًا من الظواهري. وعندما أتى ردّ الظواهري الإيجابي تجاه النصرة، لم يعد سوى خمسين في المئة من الذين غادروا، وهذا ما أدى إلى قطع العلاقات، وبدء داعش في تنفيذ عمليات عسكرية ضد مقار النصرة. برّرت داعش هذه الهجمات بحجة أن “جميع أصول وذخائر جبهة النصرة وقواعدها العسكرية هي عائدة لداعش، لأنها فرع من تنظيم (الدولة الإسلامية في العراق)”. ونتيجة هذه العمليات، استولى تنظيم داعش على العديد من معسكرات النصرة في حلب وإدلب. ولم تتخذ النصرة أيّ قرار مقاومة لهذه الهجمات، ولو أنها قررت ذلك لما وافق أي عنصر منها على توجيه السلاح ضد داعش؛ فقبل بضعة أيام من هذه الأحداث، كان أعضاء التنظيمين يتعاملون وفق مفهوم “الأخوة” في الحرب ضد النظام، حتى إنهم كانوا يستخدمون الخنادق والمقار نفسها.

تأثير الخلافات بين النصرة وداعش في السلفية المتشددة في سورية

أدى الصراع بين داعش وجبهة النصرة إلى إضعاف الأسس الفكرية للسلفية المتشددة في سورية. وفي هذا الإطار، تضررت الشروط الأساسية مثل “الانصياع للأوامر والإطاعة، واللجوء إلى الشريعة في حالة النزاع، والبيعة”، وعلى هذا النحو، انخفضت أهمية هذه المفاهيم في نظر السلفيين المتشددين في سورية، وبدأت الانقسامات تظهر في تفسير نصوص الشرع الأساسية. وقد اتهمت داعش، في تلك الفترة، قادة جبهة النصرة بـ “الضلالة والكفر”. من جهة أخرى اتهم قادة النصرة قادة داعش بـ “التطرّف والخروج”. هذه الاتهامات المتبادلة بدأت بقادة التنظيمين، ثم طالت العناصر في النهاية. وردًّا على الاتهامات التي وجهتها داعش، سعى قادة ومؤسسو جبهة النصرة لاستخدام المراجع الفكرية لنفيها. وفي هذا الصدد، وجّهت النصرة خطابها الرئيسي حول “البيعة، وإعلان الإمارة، وتطبيق الشريعة، وتكفير الهياكل الثورية”.

حاولت جبهة النصرة تنظيم وتجميع الصفوف المفككة، وحاولت الحفاظ على نفوذها، من خلال الرد على داعش نظريًا وعمليًا. لكن في تلك الفترة، ابتعدت النصرة عن هويتها السلفية المتشددة بشكل كبير. أيضًا، لُوحظ في تلك الفترة، تغييرات فكرية كبيرة في إدارة الجبهة، ولا سيّما في ما يتعلق بمفهومي “التكفير” و”الهيمنة”، خلافًا لإطار السلفية المتشددة. غير أنه لا يمكن الحديث عن طريقة مقنعة وواضحة وشاملة يمكن لجميع الأعضاء قبولها. في الواقع، كانت مسألة إعادة النظر في المراجع الفكرية تتمثل في ردود فردية على داعش من كبار قادة جبهة النصرة، أمثال: أبو ماريا القحطاني، والدكتور مظهر الأويس، وأبو سليمان الأسترالي، وصالح الحموي، بدلًا من يكونوا جادين وأقوياء. إن ما شهدته جبهة النصرة كان في الواقع مشابهًا لما شهدته حركة أحرار الشام؛ لأن الفجوة بين العناصر المتمسكين بقواعد السلفية المتشددة وطبقة القادة التي شهدت تغييرات فكرية آخذةٌ في الاتساع. ولهذا السبب، أُخفيت التغييرات في طبقة القادة عن طبقة العناصر، خوفًا من أن يترك العديد من المقاتلين تنظيم النصرة، وينضموا إلى تنظيم داعش.

جبهة النصرة وإعلان الخلافة

أعلنت داعش “الخلافة” خلال شهر رمضان عام 2014، وذلك عقب الاستيلاء على مدينة الرقة ودير الزور، بعد اشتباكات عنيفة مع الجيش السوري الحر وجبهة النصرة. وعلى الرغم من تطرف تنظيم داعش، فإن نشر وسائل الإعلام التابعة له دعايات في إطار مفهوم “الحاكم المنتصر” قد أربك عناصر جبهة النصرة.  وأدّى ذلك إلى انتقال حوالي سبعين إلى ثمانين عنصرًا كلّ يوم من النصرة إلى داعش. وبعد أن رأى الجولاني أن هذه التمزقات من شأنها أن تنهي النصرة، أعلن على الفور “الإمارة الإسلامية والشريعة الإسلامية” من خلال تسجيل صوتي، وذلك من أجل ثني العناصر الذين قرّروا ترك النصرة. نجح الجولاني في منع مقاتليه من الانتقال إلى داعش، من خلال اتخاذ إعلان الإمارة. لكن، ظهرت تحديات خطيرة، تمثّلت بدور القضاء وجمع الزكاة وتطبيق الشريعة الإسلامية على المدنيين، ووضع حدود لبعض أحكام الشريعة. هذا الوضع بدأ يضرّ بعلاقات النصرة مع التنظيمات الأخرى. كانت جبهة ثوار سورية أوّل فصيل تواجهه جبهة النصرة، ثم بدأت الجبهة بالاشتباك مع اثني عشر فصيل، ومن ضمنهم حركة حزم، بدعوى أنها “تهددها، وتتلقى الدعم من الولايات المتحدة، وتنشر الفساد”. وقالت جبهة النصرة “إن من واجبها تطبيق الشريعة في المناطق التي هيمنت عليها”. والواقع أن إعلان جبهة النصرة للإمارة الإسلامية، وتنفيذ بعض قواعد الشريعة، وإنشاء محاكم شرعية، كانت لمنع انتقال المقاتلين إلى داعش، أكثر من كونها إعلانًا توجه نحو التطرف. ومع ذلك، كان قادة النصرة يتألفون من أشخاص رأوا أن تنفيذ أحكام الشريعة في “دار الحرب” ليس إلزاميًا، وتبنّوا فكرة التعاون لإسقاط النظام. لكن، وفقًا لكبار المسؤولين التنفيذيين، لم يكن لديهم خيار آخر من أجل الإبقاء على المقاتلين داخل التنظيم، لأن الكشف عن الأفكار الحقيقية كان يعني انشقاقًا جماعيًا للأعضاء، وفي نهاية المطاف تدمير التنظيم. استمرت النصرة على هذا النهج حتى 2017 بسبب تهديد داعش.

“الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)

انفصال جبهة النصرة عن القاعدة

في عام 2014، كانت جبهة النصرة مقتنعة بأن عليها قطع علاقاتها بالقاعدة، لأن جماعات المعارضة الأخرى في سورية تمتنع عن الانضمام إليها، بسبب تلك العلاقات. ولو أنها اتخذت هذه الخطوة قبل انهيار داعش، لكان سبعون في المئة من مقاتليها قد انضموا إلى داعش، لأن العديد من المسلحين انضموا إلى النصرة، لأنهم اعتبروها الذراع السوري لتنظيم القاعدة. عندما بدأ تنظيم داعش في السقوط والتراجع، سيطرت جبهة النصرة على معظم المناطق المحررة، لكنها لم تتخذ في تلك الفترة قرارًا أحاديّ الجانب، بخصوص قطع علاقاتها مع تنظيم القاعدة. لكن خطاب الظواهري، الذي نُشر أثناء رحيل “أبو الخير المصري”، فتح الباب لأولئك الذين يريدون ترك تنظيم القاعدة، والانضمام إلى الجماعات السورية الأخرى، الأمر الذي أعطى الأمل لجبهة النصرة. وعلى الرغم من ذلك، تم الانفصال من جانب واحد، في تموز/ يوليو 2016، بدلًا من التوصل إلى اتفاق، حينها أبدى الظواهري ردة فعل تجاه الانفصال. وعلى الرغم من أن قرار الانفصال هذا كان من جانب واحد، فقد قررت شخصيات بارزة، منها “أبو خديجة الأردني، أبو جليبيب، سامي العريضي، أبو همام السوري”، مغادرة جبهة النصرة. بعد انفصالها عن القاعدة، غيّرت جبهة النصرة اسمها إلى “جبهة فتح الشام”، ثم اندمجت لاحقًا مع تنظيمات معارضة عدة لتصبح “هيئة تحرير الشام”.

تخلّي هيئة تحرير الشام عن الأيديولوجية السلفية المتشددة

مع انهيار جند الأقصى، والانسحاب الكبير لداعش، لم يبقَ أي منافس لهيئة تحرير الشام على الأرض. ومع الأخذ بعين الحسبان أنه لم يبق لدى عناصر الهيئة بديل حقيقي يمكّنهم من ترك التنظيم، أصبح قادة التنظيم أكثر شجاعة بمسألة التغييرات التنظيمية والفكرية.

كانت هيئة تحرير الشام العقبة الوحيدة أمام تركيا لتوسيع نقاط المراقبة بصفتها ضامنًا في المنطقة بموجب اتفاق أستانا. ولهذا السبب، بدأت تركيا زيادة عدد نقاط المراقبة لمكافحة هيئة تحرير الشام على حدودها، لكن هيئة تحرير الشام لم تقم بشن هجوم ردًا على تركيا، وذلك بسبب النهج البراغماتي الذي يتبعه الجولاني. في الواقع، كان لعدم وجود تنظيم بديل، يمكن لأعضاء الهيئة الذين اعترضوا على هذا النهج الانضمام إليه، دور فعّال أيضًا في هذا القرار. في المقابل، طمأن الجولاني أعضاء التنظيم بالقول: “تركيا لن تدخل إلى أراضي الهيئة بالأسلحة الثقيلة، والهيئة ليست مشكلة بالنسبة لتركيا، ومن ثم، فإن الموقف السلمي تجاه تركيا غير مخالف للشرع”. وبفضل هذا الخطاب، تمكّن الجولاني من الإبقاء على الأسماء التي تؤيد القتال ضد تركيا، مثل “أبو حفص الأردني” وأمير البادية “أبو طه الحديدي”. كان الجولاني يعتقد بأنه أقنع أعضاء هيئة تحرير الشام شرعًا، بخصوص نقاط المراقبة التركية، لكن مع دخول تركيا إلى إدلب، تصاعدت أصوات المعارضين داخل التنظيم. وبعد مدة، أدّى هذا الوضع إلى تمزق منهجي. واتخذ الجولاني احتياطات ضد هذا الوضع، وشنّ حملة اعتقالات شملت قادةً عارضوا هذه السياسة، مثل قادة القاعدة: سامي العريضي والقسام الأردني وأبو جليبيب الأردني. لكن هذه الخطوة أسفرت عن نتيجة على عكس ما كان يتوقعه الجولاني، فقد شهد التنظيم انفصالات جماعية، تمثلت بانفصال قطاع البادية وجيش الساحل وجيش النخبة وفصيل جند الملاحم، بمجموع 1200 مقاتل. شكّل بعض الذين انشقوا عن هيئة تحرير الشام تنظيم “حراس الدين” بقيادة “أبو همام الهاشمي” الذي كان القائد العسكري العام لجبهة النصرة حتى 2014، وترك التنظيم عام 2017. وبغية الحدّ من انشقاقات جماعية أكبر، غيّر الجولاني سلسلة من التفسيرات البراغماتية والتكتيكية بخصوص تركيا. ويُعزى تراجع الجولاني إلى المخاوف بشأن التعزيز الأيديولوجي لتنظيم “حراس الدين”، وتجنيدها لمقاتلي هيئة تحرير الشام. لهذا السبب، بينما سعى الجولاني في كل خطوة لتحقيق التوازن، حتى لا يكون هناك قطيعة مع التغيرات الفكرية، سعت تركيا لحماية التنظيم من خلال إجراءات مختلفة، منها نزع الأسلحة الثقيلة من المنطقة، بموجب اتفاق سوتشي.

النتيجة: الوضع الحالي لهيئة تحرير الشام

بعد مغادرة العديد من عناصرها وانضمامهم إلى تنظيم “حراس الدين”، أصبحت هيئة تحرير الشام تنظيمًا يتكون من ثلاثة مكونات أساسية:

  • – المقاتلون السلفيون المتشددون: هذا المكون لا تتجاوز نسبته داخل التنظيم 10 في المئة، ويؤوّل جميع قرارات الهيئة من وجهة نظر الشرع. من أبرز أسماء هذا المكون مظهر الأويس وأبو ماريا القحطاني وأبو حارث المصري وأبو زبير المغربي وعبد الرحمن عطون.
  • – التنظيمات المحلية: تبلغ نسبة هذا المكون حوالي 50 في المئة، ويمثله أمير في كل منطقة. هؤلاء العناصر هم من السكان المحليين ومن أبناء العشائر، وينضمون إلى التنظيمات التي ينضم إليها أمراؤهم.
  • – المقاتلون المأجورون: ويشكلون نسبة الـ 40 في المئة المتبقية. هؤلاء انضموا إلى هيئة تحرير الشام، بعد عام 2015، ومعظمهم من العناصر الذين يشاركون في العمليات الأمنية وما يتعلق بها، وليس لدى هؤلاء العناصر أفكار أو ولاءات أيديولوجية، لأنهم يقاتلون من أجل المال، وقد أصبحوا عبئًا على قيادة الهيئة، حيث تزداد ضغوطات الشعب والعناصر الأخرى داخل التنظيم بسببهم.

مع ازدياد نقاط المراقبة التركية في إدلب، وانتهاء الحرب ضد النظام، تفرّغت هيئة تحرير الشام لحكم المنطقة المحررة من أجل الحصول على الشرعية الدولية والاعتراف بها كقوة وحيدة تمثل الثورة. وبهذا الفرض، اتخذت الهيئة سلسلة من الخطوات العملية لتسويق نفسها كقوة معتدلة. ومن بين الخطوات التي اتخذتها الهيئة:

  • – في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، أنشأت “حكومة الإنقاذ” كجبهة مدنية يحتوي مجلس الوزراء فيها على شخصيات مستقلة.
  • – نظّم ناشطون مستقلون وزعماء العشائر ومجالس محلية ووفود مدنية من هيئة تحرير الشام، في 3 شباط/ فبراير 2019 في إدلب، “مؤتمر الثورة”.
  • – تمّ استبدال علم الهيئة الأسود بعلم الثورة السورية في 3 شباط/ فبراير 2019.
  • – تم تشكيل وفد سياسي في إدلب ليكون بديلًا عن وفد التفاوض التابع للائتلاف الوطني السوري.
  • – محاولة منع تنظيم “حراس الدين” من خرق وقف إطلاق النار في إدلب.
  • – روّجت لنفسها كتنظيم “يكافح الإرهاب”، من خلال اتخاذ تدابير أمنية ضد خلايا داعش وجند الأقصى.
  • – منع استهداف قاعدة حميميم الروسية بالطائرات المسيرة بعد اتفاقية سوتشي مباشرة في 17 أيلول/ سبتمبر 2018.
  • – الانسحاب من منطقة الغاب وريف حماة الشمالي، في 9 أيار/ مايو 2019، من دون أي اشتباك.

هذه الخطوات لم تمنح هيئة تحرير الشام الشرعية الدولية. لكنها، عمليًا، أسهمت في تحوّل هيئة تحرير الشام من تنظيم سلفي متشدد، إلى تنظيم براغماتي يسعى للخروج من السلفية وكسب الشرعية. وقد أدّى ذلك إلى تراجع حاد للسلفية المتشددة في سورية، ويمكن القول إن السلفية المتشددة في سورية قد سقطت، وإن أتباعها فقدوا الثقة في هذا الفكر لخمسة أسباب: أولًا، الصدمة التي أصابت السوريين الذين ينتهجون هذه الفكر، من ممارسات تنظيم داعش العلنية في سورية والعراق ضد المدنيين. ثانيًا، تفكك التنظيمات مثل داعش وجبهة النصرة وجند الأقصى، والصراعات بين التنظيمات السلفية نفسها. ثالثًا، الخلاف بين بعض المفكرين والمؤسسين المنتمين للفكر السلفي المتشدد في سورية من حيث المراجع الفكرية، وتخليهم عن هذا الاتجاه، وقد أثّر هؤلاء في كثير من الناس بإعطاء إجابات من شأنها أن تزيل الشكوك في أذهان الشباب الذين يؤمنون بالنهج السلفي المتشدد، ومن أبرز هذه الأسماء: أبو ماريا القحطاني (القائد السابق لجبهة النصرة)، والدكتور مظهر الأويس (عضو الهيئة الشرعية في النصرة)، والشيخ السعودي مجيد الراشد. رابعًا، السقوط العسكري لداعش والنصرة، والهزائم التي تعرّضوا لها في معاركهم ضد النظام، وفقدان المناطق التي كانوا يسيطرون عليها. وأخيرًا، اكتشاف زيف الشعارات التي استخدمتها التنظيمات السلفية المتشددة، وهذا ما جعل عدد السوريين الذين ظلّوا على مسافة من التنظيمات السلفية المتشددة محدودًا. ونتيجةً لذلك، يُلاحظ أن النهج السلفي المتشدد في سورية يعيش أزمة فكرية، وأنّ المنظمات السلفية المتشددة باتت مهمّشة.

Suriye’de 2011 Sonrasında Militan-Selefi Hareketler ve HTŞ’nin Dönüşümü عنوان المادة الأصلي
Saleh Al-Hamawi الكاتب
Orsam- 4/6/2021 المصدر وتاريخ النشر
https://bit.ly/3wgNCyN الرابط
3630 كلمة عدد الكلمات
 فارس جاسم الترجمة
Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

أبريل 2024
س د ن ث أرب خ ج
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist