يقول زميلنا أستاذ التاريخ نور الدين الدقي في تدوينة له بالفرنسيّة، إنّه لا مثيل في التاريخ لهذه الحرب الأوكرانيّة، فهي ليست مواجهة شاملة بين جيشين، وإنّما هي سلسلة من الهجمات المنسّقة تنفّذها القوات الخاصّة الروسيّة ضدّ أهداف استراتيجيّة متخيّرة بعناية؛ تتعامل معها القوات الأوكرانيّة كيفما كان. وفي انتظار ما ستؤول إليه الأحداث، يسوق ملاحظتين لا يمكن إغفالهما: أولاها أنّه لم يسبق لأيّة دولة أوروبيّة منذ الحرب العالميّة الثانية 1945 أن غزت جارة لها ذات سيادة وعضوا بالأمم المتّحدة.
وثانيتها أنّ المدنيّين الأوكرانيّين الذين سمحت لهم السلطات بالمغادرة، وأكثرهم نساء وأطفال وشيوخ، «صوتوا بأقدامهم» فرارا من أهوال الحرب. لكنّ غالبيّتهم لم يختاروا الذهاب إلى روسيا وإنّما اللجوء إلى الدول الأوروبيّة. على أنّي أسوق ملاحظة ثالثة هي هذا «الغضب» العارم الذي عمّ «العالم الحرّ». وهو غضب له مسوّغاته لا شكّ. ولا يخفى على كلّ من له معرفة ولو محدودة بتاريخ الحروب، أنّ الشريعة الوحيدة التي يأخذ بها الأقوياء هي شريعة الغاب. ففي 12 آذار (مارس) 1938، غزا هتلر النمسا باسم الوحدة الجرمانية. وفي 2 آب (أغسطس) 1990، احتلّ صدام حسين الكويت بذريعة «حقّ تاريخيّ»، ومني جيشه وهو الذي انتصر على إيران، بخسائر فادحة، وكان هذا الاحتلال كارثة على العراق، شديدة وشاقّة، ثمّ مجلبة للاحتلال الأمريكي؛ بذريعة امتلاك أسلحة الدمار الشامل التي ثبت بطلانها وتهافتها. وفي 24 شباط (فبراير) 2022 بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا، بذريعة الأمن القومي والعلاقات التاريخيّة والحنين إلى روسيا الكبرى. أمّا قادة الغرب فيعاقبون روسيا، ويلوّحون بعقوبات أقسى؛ ولكنّهم يلُوحون وكأنّهم في لعبة بولو الرياضيّة التي تمارس على متون الخيل بمضارب طويلة وكرة خشبيّة. وكأنّهم يقرّون بمحدوديّة فعاليّة هذه العقوبات؛ وهم يقولون إنّهم يأخذون الرئيس الروسي بذنبه، ويجزونه بفعله. ويعرف قادته أنّ بوتين ليس صدّام حسين، وأنّهم قد لا يجرؤون على مواجهته عسكريّا. بل صار البعض يتوقّع أن يتصالح الغرب في النهاية مع شريعة الغاب، و«يطبّع» مع روسيا؛ على نحو ما «نطبّع» نحن العرب مع محنة الفلسطينيّين والسوريّين واليمنيّين.
هذا «الغضب» في «العالم الحرّ» هو ما يعنيني في هذه المقاربة؛ حيث نستعيد أو نكاد في العلاقات الدوليّة لهيب الحرب الباردة بين معسكر الدول الديمقراطيّة ومعسكر الدول الشرقيّة الشموليّة، والستار الحديدي الذي كان يفصل بينهما. ودون خوض في التفاصيل، نعرف أنّ أصول المصطلح «العالم الحرّ» ترجع إلى الخطاب الشهير الذي ألقاه ونستون تشرشل في فولتون (ميسوري، الولايات المتحدة) في 5 آذار (مارس) 1946 حيث كانت أوروبا منقسمة إلى كتلتين كبريين: الكتلة الغربيّة أو الكتلة الحرّة، والكتلة الشرقيّة السوفييتيّة. وهذا المصطلح يتمثّل باختصار رؤية مانوية للعالم السياسي، أذكتها الحرب الباردة، ووضعت الدول الديمقراطيّة والدول الشموليّة في مواجهة «إيديولوجيّة». ومصطلح «الحرب الباردة» جدير بوقفة ولو عجلى، حتى نعرف أنّها اليوم شكل ثان من أشكال الحروب. والبعض يقول إنّ الأمير خوان مانويل ملك إسبانيا، في القرن الرابع عشر هو أوّل من استخدمه، لوصف الصراع الطويل بين الملوك الكاثوليك وموريسكيّي الأندلس. وينسب آخرون المصطلح إلى الكاتب الإنجليزي جورج أورويل صاحب رواية «1984» التي كتبها عام 1948، وهو كاتب يساري معارض لستالين. وأيّا كان صاحب المصطلح، فهذه «الحرب الباردة الثانية» لا تفوح منها رائحة الستيّنيات، وما رافقها من أفلام التجسّس بالأبيض والأسود، والسجالات بين الرأسماليّة أو الإمبرياليّة والاشتراكيّة. ولا يزال الأمل معقودا على ذكاء الساسة و«عقلانيّتهم»، حتى لا تؤدّي هذه الحرب الساخنة بين روسيا وأوكرانيا إلى مواجهة مباشرة بين القوى النوويّة، و«نهاية تاريخ الأرض». والمعارضة اليوم بين الشرق والغرب أبعد من أن تكون أيديولوجية، فالليبراليّة تنتصر في كلّ الأرض تقريبا بما في ذلك الصين وروسيا. وفيما تقول صحيفة «الشعب» الصينيّة إنّ «التحرّر من قيود عقليّة الحرب الباردة، يخفّف من حدّة من المواجهات غير الضرورية، ويسمح من ثمّة، بانتقال أكثر سلاسة في العلاقات الدوليّة»؛ وتضيف «أنّ النظريات المتعلّقة بالسياسة والاقتصاد والأمن أثناء الحرب الباردة، لم ينقطع تأثيرها في تصوّر كثيرين للعالم». يرى جون ماري كولومباني، المدير السابق لصحيفة «لوموند»، أنّ الأزمة الأوكرانية هي «أخطر تحدّ يواجهه الاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة منذ سقوط جدار برلين، خاصّة أنّ بوتين يتصرّف مثل أسلافه السوفييت». وأمّا وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري فينسّب الأمر ويقول: «لا نعتقد أن هذه قضيّة بين الشرق والغرب، بين روسيا والولايات المتحدة. فهذا ليس [فيلم] روكي الرابع».
ومع ذلك فمن حقّ هذا العالم أن يغضب للأوكرانيّين، وبهم (كما يقول العرب للميّت الذي نغضب على غيرنا من أجله). والغضب بكلّ ما يرافقه من عواطف جيّاشة، هو ما يوسم به ويوصم العرب عادة. وكان فلاسفة الغرب، وربّما لا يزالون، ينظرون إلى العواطف على أنّها محفوفة بغموض كبير. بل هم يغضّون من شأنها إذ لا وظيفة لها سوى تعطيل الأداء الأمثل لعقلنا أو مصادرته. بل هي في ما يقرّرون تقودنا إلى التصرف بغباء، كلّما حملنا الغضب على الجهل الذي هو نقيض الخبرة والعقل معا؛ أو عندما يشلّنا الخوف، فلا نمتلك القوة للردّ على موقف يفترض أن نواجهه. وعلى ما في هذا من حقّ أو بعض حقّ، فإنّ العواطف تنهض بدور في قدرتنا على «تقييم» قيمة الأشياء والأشخاص من حولنا. لكن ما جدوى العواطف التي لا تقترن بالإرادة؛ فيما الصراع اليوم في هذه «الحرب الباردة الجديدة» هو على الأرجح، بين «إرادة القوة» (نيتشه)، و«إرادة الحياة» بعبارة شوبنهاور الذي يستدرك على التمييز الكانطي بين الظاهرة والشيء في حدّ ذاته. والعالم من هذا المنظور يتجلّى في هيئتين، إذ يدرك على مسافة وبعد، كشيء متميّز عنّا. وهو من ثمّة إعادة تمثّل محكوم بجملة من المبادئ أو الأسس: التفرّديّة [التشخّصيّة] من جهة حيث الكائنات منفصلة عن بعضها بعضا، في المكان والزمان؛ والسببيّة من جهة أخرى إذ هي ترتبط بعلاقات أسبابا ونتائج. على أنّ هذه المقولات والألفاظ الكليّة، ليست سوى حجاب الوهم، وليست جوهر الأشياء. والتمثّل إنّما هو الظاهر، أو ما يبدو من الشيء في مقابل ما هو عليه في ذاته. وبمعزل عن هذه المقولات التي يمليها العقل، والعلاقات التي نعقدها بين الأشياء؛ فإنّ العالم موجود في ذاته. ويؤكد شوبنهاور أنّه بميسورنا بلوغ هذا الشيء في ذاته. أمّا كيف فبالحدس المباشر وبلا حدّ أو واسطة، حيث تتحقّق رؤية بنيويّة للكون، حيث الواحد في الكلّ، والكلّ في الواحد. ومن هذا المنظور فإنّ الوجود نفسه هو هذه الإرادة أو مكابدتها؛ وهي تنقلنا من رغبة إلى أخرى. أو لنقل إنّ الإرادة هي التي تفعل وتحفز، ولسنا نحن. بل هي التي تفعل في الأشياء أيضا. أمّا الفنون التي تحضر في السلم والحرب، فهي الأشكال المصفّاة التي تتجلى فيها الإرادة. من ذلك أنّ فنّ العمارة يتمثّل القوى الأصليّة للطبيعة غير العضويّة، ما تعلّق الأمر بالجاذبيّة والصلابة. ويتمثّل النحت الطبيعة الإنسانيّة عامّة؛ والرسم المشاعر والعواطف. ويتمثّل الشعر الفكر؛ والتراجيديا استعداد الإنسان للتخلي عن إرادته في مواجهة القدر. أمّا الموسيقى الفنّ الأسمى، فهي ليست مجلى للإرادة؛ وإنّما الإرادة نفسها، لما تنطوي عليه من أنس النفوس هذا السحر الخبيء.
وبمعزل عن الاعتقاد في كمال الآلهة، فالنقص الأبدي فينا وفي الأشياء التي تحفّنا هو الرجاء في ما يأتي، وفي صيانة الحياة. والإرادة من ثمّة، معاناة لابدّ منها، وشعور بالألفة، يثبّت وحدة جميع الكائنات في الإرادة. والأنا ليست أكثر من وهم يحسن التحرّر منه؛ حتى ونحن نشارك اللاجئين الأوكرانيّين محنتهم، ونأسى عندما نرى عامّة الأوروبيّين لا يتعاطفون مع قضايانا العادلة في فلسطين وسوريا.
كنّا نظنّ أنّ الفلسفة هي التي دشّنت فعل تحويل الحياة إلى موضوع للإرادة، بعدما كان يُعتقد أنّ الحياة بداهة لا تحتاج إلى تعليل، ولا إلى أن تكون موضوع قصد؛ وإنّما هي فقط مجال تُلتَقط منه الحكمة؛ هي ذي الحرب الأوكرانيّة تعزّز هذا الاتّجاه سواء تلقّفنا «الإرادة» مؤسّسةً على الأخلاق، بحيث نردّها إلى العقل؛ أو من حيث هي تعبير عن جوهر إنسانيّ كامن لا يمكن تفعيله إلاّ إذا فهمنا الإرادة من حيث هي قوّة للعقل، حيث ليس للفرد من إمكان أن يكون حرّا إلاّ بقدر ما يكون فردا في إنسانيّته التي تلزمه بالوقوف إلى جانب الضحايا والمغلوبين.
*كاتب من تونس
“القدس العربي”