هل يمكن القول إن الشعر الفلسطيني بعد عام 2000 شهد تحولاً في الرؤية والتشكيل، وبوجه خاص على مستوي الوعي بالذات الفلسطينية؟ لقد بدا العالم في مطلع الألفية الثالثة مغايراً عما نعرفه قبل ذلك، ولنكن أكثر تحديداً لقد بدأنا نلمس هذا التّحول مع مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة، حيث أخذت تتضح معالمه مع انطلاق الثورة الصناعية الرابعة، التي تمظهرت على شكل سيولة أصابت شتى مناحي الحياة، وأبرزها وسائط التعبير التي ألقت ثقلها على المشهد الأدبي، فبدأت الكتابة تتجاوز فعل التلقي، أو نعني ذلك التلقي على مستوى التأمل العميق، كما الوعي بحدود التغاير، والتمييز بين الأدب الحقيقي، وفيض الكتابة الافتراضية التي بدأت تنتشر هنا وهناك، فأصبحنا لا نتمكن يقيناً ممن يكتب، ومن يمتلك التبرير لأن يكون شاعرا أو روائياً.
وبذلك فنحن أمام مشهد مغاير بالكلية عما كنا نألفه سابقاً، ولاسيما مع صدور مجموعة شعرية هنا أو هناك لشاعر ما، حيث كانت غالباً ما تخضع لرؤى وتأملات عميقة، في حين أننا الآن بتنا لا نعرف من يكتب؟ ومن يقرأ؟ غير أن هذا التحول كان يمثل جزءاً من تحول آخر يتصل بتداعيات اتفاقية أوسلو على المسألة الفلسطينية، كما توجد عوامل أخرى ربما ألقت ظلالها على المشهد الشعري الفلسطيني.
يتفق أكثر من دارس على أن الشعر الفلسطيني قد تميّز باتجاهين: شعر الثورة، وشعر المقاومة، في حين فرضت التحولات الجديدة شيئاً من الانحراف عن نبرة هذين الاتجاهين، ورؤاهما، مع بروز أجيال جديدة، بالتجاور مع الأسماء التي شكلت المشهد الشعري الفلسطيني التقليدي، التي سعت لأن تعيد إنتاج قصيدة جديدة تنحرف إلى حد ما عن هذين الاتجاهين، ولكن دون تحقيق قطيعة نهائية، غير أن التّحول يأتي تبعاً لظروف متعددة، حيث يمكن أن نرى في انحسار الخطاب الثوري، أو المقاوم بصيغته المألوفة، ولاسيما تلك التي ارتبطت مع حركة النضال القومي واليساري، عاملاً في تغيير الكثير على مستوى مضمون القصيدة، ونبرتها، وحتى رؤاها، وهذا جاء نتيجة التحول الأكبر أو الجذري في تعديل الموقف الفلسطيني، بعد توقيع اتفاقية أوسلو 1993 التي أحدثت تحولاً غير متوقع، ونعني تصدّع مشروع التحرير بصورته المثالية، التي تنهض على قواعد راسخة أهمها تشكيل علاقة الفلسطيني بفلسطين، ومشروع التحرر، ومن ذلك النفي القاطع للاعتراف إلا بفلسطين التاريخية قبل أن تقضم، وتتجزأ إلى قطاعات، بالتضافر مع نفي الوجود الكلي للمحتل الصهيوني.
لعل هذا المنظور قد أصيب بشرخ عميق ألقى ظلاله على تكوين القصيدة، فبات الشعر في مرحلة رمادية أو مرتبكة، مع التأكيد على أن هذا التحول قد احتاج إلى بعض الوقت كي يتمكن من استيعاب هذا المنعطف في العقيدة الشعرية الفلسطينية التي كانت تتمتع بحدية واضحة في كل ما يتعلق بفلسطين، حيث بدا المشهد مرتبكاً لهذا التحول، ومن ذلك إحداث تحول في رؤيته لقضيته، وهي صيغة لا يمكن أن نقول إنها اتخذت شكلا ثابتاً أو قاراً، إنما بدت في مرحلة انتقالية، وفي هذا الشأن، نرى أن بعض التحولات جاءت نتيجة دواعٍ في تحول المشهد الأدبي، بالتجاور مع بروز موجة كتابة الرواية، وما صحب ذلك من انتشار الجوائز المخصصة للرواية؛ ما أحدث بعض الأثر في انحسار الكتابة الشعرية على مستوى الكتابة العربية عامة، فضلاً عن ظهور منصات جديدة للنشر، ونعني تلك المنصات الافتراضية التي أحدثت بعض التحول في المشهد الإبداعي، كما صيغ الكتابة بحد ذاتها، حيث بدأت تجنح الكتابة في تكوينها إلى التأثر بسمات الأجواء الافتراضية، التي تتسم بميل نحو تتبع الحدث، أو التعجل، وفي بعض الأحيان السطحية، ولاسيما لمن لا يمتلك تجربة شعرية حقيقية، وهذا نتج عن مؤثرات هذه المنصة، بالتعاضد مع تغير الجمهور الذي يتابعه، ومن ذلك فقدان التراكم الثقافي للقارئ الرصين الذي كان يمتلك حاسة نقدية أشد وعياً لكونها تحتكم إلى ذاكرة ثورية.
لايمكن أن تكتسب الشعرية الفلسطينية تموضعها إلا عبر تعالقها البنيوي مع القضية الفلسطينية، بما في ذلك خطاب التحرر بوصفه مركزية، وهذا أمر لا يمكن أن ننكره بأي حال من الأحوال، كون الشعر يمتد في سياقات الإنشاء على مستوى مفهوم الخطاب، بالإضافة إلى تلك التقاطعات التي تضغط على الإنسان بما في ذلك الشاعر عينه.
هذا التحول لا يمكن أن نعدّه حكما نهائياً، فعلى سبيل المثال يطالعنا الشاعر زكريا محمد – أحد أبرز الشعراء الفلسطينيين – بمجموعة شعرية نشر معظم قصائدها على صفحته الرقمية في موقف أقرب إلى العزلة، أو العزوف عن استثمار وسائط النشر التقليدي، غير أنه سرعان ما أصدرها في مجموعة أو كتاب بعنوان «كشتبان» 2014، وهنا نرى بأن هذه المجموعة، بدت ذات تأثير من حيث فرادة موضوعاتها، وأسلوبها ونزعتها الوجودية، فثمة تجربة ممتدة وراسخة، علاوة على تقاليد شعرية لدى هذا الشاعر، بالتجاور مع محاولة خلق نماذج للتجريب وابتكار رؤى حملت صيغة شاعر عُرف عنه أنه أحد أهم الأسماء الشعرية الفلسطينية المعاصرة، إذن يمكن القول إنها كتابة تعي ذاته، ولكن هذه التجربة، جاورتها مئات من المجموعات التي بدت ذات حضور ضئيل لم تحتمل أي أثر على الإطلاق لكون هذه التجارب لم تنطلق من وعي تجربة حقيقية، إنما جاءت في فضاء ما حملته أمواج الشاشات الزرقاء التي أتاحت سيولة النشر للعديد من الأصوات بالظهور عبر الاستفادة من هذه المساحة للنشر، فمعظم هذه الكتابات كانت تفتقر إلى الرؤية الشعرية العميقة، ولاسيما تلك المجموعات التي جاءت مع هذا الفضاء الجديد، عبر توفر منصات ومواقع ومجلات رقمية أغرقت الكتابة في فيض بدا من المستحيل متابعته، باستثناء ما تحول منه إلى مجموعات شعرية، وهي تبدو فوق القدرة على الإحاطة بها، علاوة على تواضعها فنياً ومضمونياً.
وإذا كانت إمكانية الكتابة متاحة فإن القدرة على القراءة والوعي بالقصيدة قد انحسر بوضوح، فباتت الحالة أشبه بكتابة سائلة لا تستقر في وعي الجمهور، وهذا أدى إلى تراجع جماهيرية الشعر الفلسطيني الذي كان يرتبط في معظم الأحيان بمشروع سياسي وأيديولوجي، أو اتجاهات فنية، وفي معظم الأحيان اعتمد على مقولات الثورة والتحرير؛ ما يحيلنا إلى مزاج عام بدا بعض الشيء غير مؤاتٍ للكتابة الشعرية، ولاسيما في ظل ارتباط الشعر الفلسطيني قبل عام 2000 – أي بعد سبع سنوات من اتفاقية أوسلو- بمراحل شعرية تتصل عضوياً بالنسق الأيديولوجي الراديكالي بمظهريه الثوري والمقاوم، كما تمثله بعض النماذج (دحبور- القاسم- درويش- بسيسو- البرغوثي، وغيرهم).
وهنا نتوقف قليلاً للتأمل في نموذج التحول في شعر المقاومة بعد اتفاقية أوسلو، حيث بدا نموذج القصيدة، ونهجها أقرب للتخفف من سمات أهمها العاطفة، والمباشرة، والغنائية بغض النظر عن الاتجاهات، سواء أكانت واقعية أو رمزية أو أسطورية وغير ذلك.. كما مثلتها نماذج لكل من محمود دويش، وتوفيق زياد، ومعين بسيسو، وسميح القاسم، وفدوى طوقان، ومحمد القيسي، وعز الدين مناصرة، باختلاف كل تجربة، وخصوصيتها.
ختاماً، لا يمكن أن تكتسب الشعرية الفلسطينية تموضعها إلا عبر تعالقها البنيوي مع القضية الفلسطينية، بما في ذلك خطاب التحرر بوصفه مركزية، وهذا أمر لا يمكن أن ننكره بأي حال من الأحوال، كون الشعر يمتد في سياقات الإنشاء على مستوى مفهوم الخطاب، بالإضافة إلى تلك التقاطعات التي تضغط على الإنسان بما في ذلك الشاعر عينه، وأي محاولة لقراءة الشعر الفلسطيني خارج هذا السياق ستبدو مجتزأة لا تعبر حقيقة عن مشهدية الشعر الفلسطيني، وأبعاده كونها لازمة لا يمكن أن ينفك عنها، مع التأكيد على اتساع المقولة الشعرية، وأهمية البعد الجمالي، غير أن خصوصية المعنى الفلسطيني لا يمكن أن تتحرر سوى بتحرر الإنسان والوطن.. كون المعادلة هنا أكبر مما نعتقد؛ إنها تعني الوجود، ولا شيء غيره.
كاتب فلسطيني أردني
“القدس العربي”