خلاصة المواقف في بيان الاتحاد العام التونسي للشغل، الصادر عن اجتماع هيئته الإدارية في الحمامات مؤخراً، غير بعيدة عن تسجيل نموذج آخر في خيار عتيق، وسطي إذا لم يكن تصالحي النبرة، هو الإمساك بالعصا من المنتصف؛ حيث يتأرجح الاعتراض مع الاتفاق، والتصعيد مع التهدئة. الفيصل، مع ذلك، ليس على الدرجة ذاتها من الاختلاط، أو حتى ذلك الطراز من «الإبهام البنّاء»، لأنّ حصيلة مواقف الاتحاد منذ 25 تموز (يوليو) المنصرم، حين أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد إجراءاته الانقلابية، تظلّ حتى الساعة مجيّرة في رصيد الأخير، وتواصل تغطية قراراته على نحو صريح تارة أو يكتنفه بعض السخط والاحتجاج والتبرّم تارة أخرى.
ففي المنتصف الأوّل من العصا، حيث مناطق الاختلاف مع سعيّد، أعلن الاتحاد مقاطعة الحوار الذي دعا إليه قصر قرطاج بموجب المرسوم الرئاسي القاضي بإحداث «الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة»، وتكليفها بتقديم «اقتراح يتعلق بإعداد مشروع دستور لجمهورية جديدة». وقال الاتحاد، في بيانه ثمّ في تصريحات لاحقة لأمينه العام نور الدين الطبوبي، إنّ ذلك الحوار «شكلي تُحدد فيه الأدوار من جانب واحد وتُقصى فيه القوى المدنية»؛ وأنه «لا يرتقي إلى حلّ المعضلة في البلاد ولا يرسم مستقبلاً أفضل لها، وفيه تجاهل للمكونات السياسية الفاعلة في البلاد».
وضمن المنتصف إياه، ينذر الاتحاد بأنّ هيئته الإدارية وافقت على تنظيم إضراب عام وطني، للاحتجاج على تجميد الأجور والوضع الاقتصادي المتردي؛ وقبل اجتماع الحمامات كان المكتب التنفيذي للاتحاد قد دعا الحكومة إلى «التفاعل الإيجابي مع مطالب الشغّالين»، ابتداء من «إلغاء المنشور عدد 20 والشروع في مفاوضات اجتماعية تفضي إلى الزيادة في الأجر الأدنى المضمون وتعديل المقدرة الشرائية لأجور أعوان القطاع العام والوظيفة العمومية»؛ وذلك بهدف «تطبيق الاتفاقيات القطاعية المبرمة وإنهاء التفاوض في تنقيح النظامين الأساسين للوظيفة العمومية وللمنشآت والدواوين».
في المنتصف الثاني من العصا، حيث التوافق مع سعيّد وتطبيق ما أطلق عليه الاتحاد تسمية «شراكة في رسم مستقبل تونس»، تابع الاتحاد مواقفه السابقة التي شكّلت «تطابقاً في وجهات النظر» حول «إصلاح المؤسسات العمومية وديمومتها والمحافظة عليها»، و«قضية الدعم وضعف الأجور»، و«إصلاح المنظومة التربوية»، وسواها من قضايا؛ تستوجب الخلاف في واقع الأمر، وليس التوافق، بدليل ما أتت به نبرة اجتماع الحمامات لاحقاً.
أكثر من هذا كان الاتحاد قد قدّم إلى سعيّد هدية ثمينة تماماً، حين ساند قرار الأخير بحلّ البرلمان، مشيراً إلى أنه «لم تعد هناك ضرورة لاستمرار مجلس النواب لأنه أعطى صورة سيئة تعكس فساد الحياة السياسية». وهذا سلوك يتوجب أن يُستغرب من منظمة كفاحية عريقة تعتنق الديمقراطية وتُعلي الفصل بين السلطات الثلاث، ولكنها في الآن ذاته تؤيد تفكيك موئل السلطة التشريعية أياً كانت مساوئه، أو بصرف النظر عن محاسنه.
بذلك فإنّ عصا الاتحاد التونسي للشغل تراود الحقّ والباطل في آن معاً، وهذا خيار لا تخفى مزالقه السياسية والاجتماعية والمعيشية، فضلاً عن تلك الأخلاقية التي تخصّ مناقبية منظمة كانت وتظلّ صانعة واحدة من الصفحات الأكثر إشراقاً ونقاء في تاريخ نضالات الشعب التونسي من أجل حياة كريمة متحررة من الاستبداد والفساد. وفي الوقوف على مسافة متساوية من انقلاب سعيّد ومنجزات انتفاضة 2010 وإرث البوعزيزي، فإنّ الاتحاد لا يتنازل طواعية عن قسط كبير من ذلك السجلّ النضالي المشرّف تماماً، فحسب؛ بل يورّط ذاته، إرادياً للأسف، في ممارسات سعيّد التعسفية، على غرار زجّ اسم الاتحاد في إحدى لجان الحوار من دون علمها ورغم إعلانها مقاطعة الهيئة الاستشارية.
الآمال المعلّقة على منظمة فرحات حشاد ومحمد بن عاشور أعلى بكثير، وأسمى وأكثر انحيازاً إلى الشعب وسواد كادحيه، من أن تواصل قيادته الإمساك بعصا متأرجحة، ذات يمنة أو ذات يسرة، بين حقّ مرّة وباطل مرّة أخرى.
“القدس العربي”