شرعت تركيا مجدداً في التخطيط لشن هجوم عسكري جديد شمال سوريا. ويقترن خطابها الآن بتعبئة عسكرية كبيرة على طول المنطقة الحدودية، ما يجعل تنفيذ تهديد أنقرة أمراً محتملاً. فالمناطق المهددة تخضع لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» التي يقودها الأكراد، والتي تعدّها أنقرة جماعة إرهابية، بسبب انتمائها إلى جماعة «حزب العمال الكردستاني» المتمردة، ومقرها تركيا. ونظراً لعدم قدرتها على الاعتماد على حليفها الولايات المتحدة في الحماية، فإن «قوات سوريا الديمقراطية» أمام خيار واحد: عقد صفقة مع الشيطان.
التفاصيل حول المفاوضات مع النظام السوري شحيحة، لكن يبدو أن دمشق وافقت على نشر قوات على الخطوط الأمامية مع تركيا. ومع ذلك، من غير المرجح أن تكون هذه الخطوة كافية لردع تركيا أو وقف هجومها بعد إطلاقه. وقد تناقلت وسائل الإعلام معلومات متضاربة حول ما اتفق عليه الجانبان، ما يشير إلى أنه لم يجرِ التوصل إلى اتفاق نهائي بعد. وصرح مسؤولو «قوات سوريا الديمقراطية» في 5 يوليو (تموز) بأنهم وقّعوا خطة دفاع مع النظام السوري لمواجهة أي هجوم تركي محتمل بشكل مشترك. وبالإضافة إلى نشر المزيد من القوات، ورد أن دمشق وافقت على إرسال أسلحة ثقيلة (بما في ذلك المدفعية الثقيلة والدبابات والعربات المدرعة) لتعزيز القدرات القتالية للإدارة الذاتية.
وعلى النقيض من ذلك، ذكرت صحيفة «الوطن» الموالية للحكومة في 7 يوليو أن المفاوضات لم تنجح بسبب عدم استعداد «قوات سوريا الديمقراطية» لقبول مطالب دمشق. وقالت مصادر داخل «قوت سوريا الديمقراطية»، تحدثت شريطة عدم الكشف عن هويتها، لكاتب هذا المقال، إن دمشق أصرت على إنشاء غرفة عمليات تحت قيادتها، تكون مسؤولة عن جميع الأنشطة العسكرية في المنطقة المهدَّدة من تركيا والتي يبلغ عمقها 30 كيلومتراً. كذلك، طالب النظام بوضع تلك المنطقة تحت سيطرته الإدارية. لكن كان لدى «قوات سوريا الديمقراطية» خطة مختلفة تتمثل في طلب إمدادات عسكرية ثقيلة وجعل قوات النظام تلعب دوراً داعماً عند حلول ساعة الصفر. في النهاية، لم يجرِ التوصل إلى اتفاق بسبب الفجوة الهائلة بين ما يحاول الطرفان تحقيقه. ومع ذلك، اتفقت الأطراف المتفاوضة على نشر 550 جندياً حكومياً في المناطق المهددة، كبادرة حسن نية.
وليست هذه هي المرة الأولى التي يفشل فيها الجانبان في التوصل إلى اتفاق في أوقات الأزمات. في الواقع، فإن الجولة الأخيرة من المحادثات هي تقريباً نسخة طبق الأصل من المناقشات التي سبقت الهجمات التركية ضد المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في عامي 2018 و2019. وفي كلتا الحالتين، كانت المفاوضات غير مثمرة، بسبب محاولات النظام الاستفادة من الأزمات لتعظيم مكاسبه. وإذا كان في التاريخ أي دليل للمستقبل، فإن الاتفاقية الحالية ستكون أيضاً غير مثمرة.
لكن، حتى في السيناريو غير المتوقع المتمثل في قدرة الجانبين على إيجاد حل وسط، فمن غير المرجح أن يردع اتفاقهما هجوم أنقرة. فقد أرسلت تركيا رسائل واضحة بأنها لن تتردد في استهداف قوات النظام. وتجلّى ذلك في هجمات الطائرات التركية من دون طيار الأخيرة في «تل رفعت» و«منبج» على المواقع التي ينتشر فيها مقاتلو النظام.
وفي حال وقوع مواجهة عسكرية مباشرة، فلا «قوات سوريا الديمقراطية» ولا النظام يمتلكان القدرة على إيقاف تركيا. وتشير بيانات إلى أن وجود قوات النظام في شمال شرقي سوريا هو أمر رمزي. بعبارة أخرى، لا تملك تلك القوات القدرة على الصمود في وجه هجوم تقوده تركيا. وعلى الرغم من وجود المزيد من القوات والمعدات الأفضل في إدلب، فقد تمكنت تركيا في عام 2020 من القضاء بنجاح على جزء كبير من جيش الأسد في تلك المنطقة في غضون يومين فقط، من خلال الاستخدام المبتكر للطائرات من دون طيار. والأمر نفسه ينطبق على «قوات سوريا الديمقراطية» التي لم تتمكن من الدفاع عن أيٍّ من المناطق التي استهدفتها أنقرة في الماضي.
بدلاً من ذلك، يمكن للنظام أن يحاول استخدام الوسائل الدبلوماسية لمنع تحرك هجومي جديد. في مثل هذا السيناريو، يمكن لدمشق التوسط في اتفاق، عبر روسيا، لإزالة «قوات سوريا الديمقراطية» وهياكلها الإدارية في منطقة عمقها 30 كيلومتراً من الحدود التركية – السورية. ومن الناحية النظرية، يمكن أن يكون التفاوض على مثل هذا الأمر مهمة سهلة. وقد توسطت روسيا وتركيا بالفعل في صفقة مماثلة في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 لطرد جماعة «حماية الشعب الكردي»، التي تشكل العمود الفقري لـ«قوات سوريا الديمقراطية»، من المنطقة الحدودية.
وبالمثل، صرح الرئيس إردوغان سابقاً بأنه سيوافق على السماح لقوات النظام باستبدال «قوات سوريا الديمقراطية». ومع ذلك، فإن تنفيذ مثل هذه الصفقة أصعب مما يبدو. فقد فشلت اتفاقات مماثلة في الماضي بسبب عدم قدرة الأطراف المعنية على الاتفاق على آليات مراقبة وتحقق مقبولة للطرفين. والجدير بالذكر أن تركيا اتهمت روسيا بالفشل في تنفيذ اتفاق 2019 واستخدمت ذلك لتبرير حاجتها لشن هجوم جديد. وبالتالي، سيكون من الصعب للغاية على موسكو بيع نفس الصفقة لأنقرة مرة أخرى.
إلى جانب ذلك، أصبحت أنقرة في الوقت الحالي أكثر يأساً لتحقيق انتصار على الأكراد السوريين مما كانت عليه في الماضي القريب بسبب ظروفها السياسية الداخلية. فنظراً لتراجع شعبيته بسبب الأزمة الاقتصادية، يبحث الرئيس إردوغان عن أي خطوة يمكن أن تساعد في تحسين صورته في الداخل وحشد الدعم السياسي قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية لعام 2023 فمن خلال تبني موقف أكثر عدوانية في التعامل مع الأكراد السوريين، يأمل إردوغان في إعادة الاتصال مع كل من ناخبيه وحليفه الانتخابي، «حزب الحركة القومية».
اختيار تركيا للمناطق المستهدفة المحتملة التي لا وجود أميركياً فيها، يعطي لموسكو صلاحية استخدام الضوء الأخضر أو منع هجوم جديد. وبالتالي، من المرجح أن تستفيد أنقرة من موقفها المحسّن تجاه روسيا، بسبب الحرب في أوكرانيا، للحصول على الضوء الأخضر الذي تحتاج إليه. ففي غياب موافقة ضمنية من موسكو، من المرجح أن يحمل الهجوم التركي خطراً إضافياً بوقوع ضحايا.
سؤال المليون في مثل هذا السيناريو هو: هل تعتقد أنقرة أن مكاسب مثل هذه المغامرة تستحق المخاطرة؟
“الشرق الأوسط”