بدأ مشروع الفاو الكبير بعد احتلال العراق مباشرة؛ حيث طرح رجل الأعمال العراقي جوزيف حنا الشيخ مشروع ميناء الفاو الكبير، ثم جاءت، بعد ذلك، فكرة «القناة الجافة» لربط ميناء الفاو بأوروبا عبر تركيا من خلال طرق سريعة وسكك حديد. وفي عام 2010 قامت وزارة النقل العراقية، في حكومة السيد نوري المالكي الثانية، بوضع حجر الأساس لميناء الفاو الكبير (بتكلفة إجمالية بلغت 4.4 مليار يورو) ووقعت حكومة السيد مصطفى الكاظمي، بعد ذلك، عقد إنشاء المرحلة الأولى منه مع شركة دايو الكورية الجنوبية (بتكلفة بلغت 2.62 مليار دولار) وقد تضمن إنشاء 90 رصيفا، وإنشاء القناة الملاحية المؤدية إلى ميناء الفاو فضلا عن كاسر الأمواج الذي يبلغ طوله 15 كيلو مترا، وكان الموعد المتوقع لافتتاح المرحلة الأولى من المشروع عام 2025.
وقد تغير اسم المشروع من «القناة الجافة» إلى «طريق التنمية» في حكومة السيد محمد شياع السوداني الذي أعلن عنه نهاية أيار 2023 وهو طريق يمتد لمسافة 1200 كلم من الطرق السريعة وسكك الحديد، وتصل كلفته إلى 17 مليار دولار، يُنفذُ على ثلاث مراحل تنتهي الأولى عام 2028، والثانية عام 2033، والثالثة عام 2050. وقد عقد العراق مؤتمرا بأيار 2023، حضرته تركيا وإيران وسوريا والأردن، فضلا عن الدول الخليجية: السعودية وقطر والإمارات وعمان والبحرين، وقد طرحت فيه شركة بروجيتي أند غلوبال الإيطالية، دراسة الجدوى الخاصة بالمشروع. وانتهى المؤتمر بتوقيع العراق وتركيا وقطر والإمارات العربية المتحدة، اتفاقا مبدئيا للتعاون في إنجاز مشروع طريق التنمية بتاريخ نيسان 2024.
هذه الأعوام التي تفصل بين لحظة وضع حجر الأساس لمشروع ميناء الفاو، ولحظة التوقيع على اتفاق مبدئي ضم ثلاث دول فقط من الدول التي حضرت المؤتمر الخاص بالمشروع، كانت كفيلة بإيضاح جزء من المعوقات التي تواجه مشروع طريق التنمية كي يتحول من «فكرة» إلى «مشروع حقيقي!
فالعراق دولة ريعية نموذجية، ويُشكّل الريع ما بين 87.14٪ إلى 93٪ من إجمالي الواردات، وبالتالي تتحكم أسعار النفط في كل شيء، بما فيها المشاريع الاستراتيجية مثل ميناء الفاو وطريق التنمية. كما أن الفساد يشكل عاملا جوهريا في بنية النظام السياسي وبنية الدولة، ومن ثمّ لا يمكن إبعاد هكذا مشاريع عن مناخ الفساد الحاكم هذا، وحادث انتحار مدير شركة «دايو» في العراق، المنفّذة لمشروع ميناء الفاو، بعد أيام من توقيع العقد «نتيجة تعرضه لضغوط وابتزاز» كما قال رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، أكبر شاهد على ذلك. إذ لا يمكن أن يكون هناك مشروع بهذا الحجم لا يستغلها الفاعلون السياسيون المتنفذون ويؤمنون حصتهم فيه. بل إن العقود المتعلقة بهذا المشروع ستكون هي نفسها محل تنافس للاستثمار في المال العام!
والمسألة الجوهرية، هنا، هي أن الموازنة الثلاثية للأعوام 2023 و 2024 و 2025 لم تخصص أي أموال لهذا المشروع!
كما أن الوضع الأمني الهش، ووجود قوات حزب العمال الكردستاني في المناطق التي سيمر بها طريق التنمية، (او حلفاؤه كحزب الاتحادي الديمقراطي ووحدات حماية الشعب على الجانب السوري المحاذي لمسار هذا الطريق) مع وجود قوى مسلحة تنازع الدولة على سلطاتها ومواردها، والصراعات السياسية البينية الشيعية ـ الشيعية، وضعف الكفاءة المزمن في مؤسسات الدولة العراقية، كل هذا سيفرض شروطه، بالضرورة، على المشروع ككل، وعلى الشركات الاستثمارية التي ستفكر في الدخول في هذا المشروع!
المطلوب اليوم هو وضع حلول لهذه الإشكاليات من أجل تحويل الفكرة إلى مشروع حقيقي، ولن تنجح «الشعبوية السياسية» المتعلقة بمشروع «طريق التنمية»، في مواجهة هذه التحديات الجوهرية
لكن المسكوت عنه، في الواقع، هو موقف أربع جهات من هذا المشروع؛ وهي إقليم كردستان، وإيران، والكويت، والولايات المتحدة الأمريكية؛ فقد تجاهل المركز إقليم كردستان تماما، رغم أن طريق المشروع يمر بأراضيه بالضرورة، إذ لا وجود لأي تماس بين حدود محافظة نينوى، والحدود التركية، إلا عبر محافظة دهوك، وثمة صراع حقيقي يتعلق بتلعفر (تركماني سني وتركماني شيعي) وسنجار (بين حزب العمال الكردستاني المتحالف مع الحشد الشعبي والحزب الديمقراطي الكردستاني) وكلاهما ضمن مقتربات هذا الطريق. لذلك لا يمكن الحديث عن البدء بالمشروع دون التفكير في حلول حقيقية للمشكلات بين الإقليم والحكومة الاتحادية، وهي مشكلات تتطلب شراكة حقيقية للإقليم في هذا المشروع!
أما إيران، فيمكن أن تشكل عقبة حقيقية بسبب نفوذها الواسع على قوى سياسية وميليشياوية عديدة يمكن لها أن تعيق تنفيذ هذا المشروع في حال استبعادها منه، لاسيما أنه يتعارض مع مشاريع ربط بري وسككي أخرى تدخل إيران طرفا فيها. والمسألة لا تتعلق بالجانب الجيواقتصادي وحسب، بل بالجانب الجيوسياسي؛ فدخول تركيا في مشروع طريق التنمية سيعني عمليا تحول تركيا إلى فاعل مركزي في المنطقة على حساب إيران!
وكانت إيران قد وقعت في آذار 2021 اتفاق تعاونٍ استراتيجي مع الصين تمهيدا لمشاركة إيران في مبادرة «الحزام والطريق. وفي أيار 2023، اتفق الرئيسان الإيراني والروسي على بناء سكة حديد بين مدينة رشت وأستارا بطول 162 كلم، كجزء من ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC) وهو خط بحري وسكك حديدية تمتد لمسافة 7200 كلم، تربط ميناء بومباي الهندي بسانت بطرسبورغ وفقا للاتفاقية الثلاثية التي وقعت بين الهند وإيران وروسيا عام 2000، وانضمت إليها لاحقا كازاخستان وأذربيجان وأرمينيا وطاجكستان وبيلاروسيا وعمان وسوريا فضلا عن بلغاريا كمراقب.
ولإيران، أيضا، خططها للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط؛ ففي أيلول 2023 وضع السيد محمد شياع السوداني حجر الأساس لمشروع الربط السككي بين العراق وإيران عبر منفذ الشلامجة في محافظة البصرة، ويفترض أن ينتهي عام 2025، لكن الخلاف العراقي الإيراني حول توصيف هذا الربط، كان لافتا؛ فبينما قال نائب الرئيس الإيراني (محمد مخبر) أنه «سيربط إيران بالبحر الأبيض المتوسط» وإكماله «من شانه أن يحدث قفزة كبيرة للغاية في مجال التبادل التجاري» قال بيان مكتب السوداني الإعلامي إن المشروع هو «لنقل المسافرين وزائري العتبات المقدسة» حصرا!
أما الكويت، فبعيدا عن ميناء مبارك الكبير والمشاريع المرتبطة به، والتي تتقاطع مع مشروع طريق التنمية، فهي على الأغلب لن تكون راضية بتحول ميناء الفاو إلى نقطة ربط دولية قبل أن يتم حسم موضوع ترسيم الحدود البحرية بينها وبين العراق جنوب العلامة 162، في ظل خطوط الأساس المختلف عليها بين البلدين، وما يترتب على ذلك من اختلاف في ترسيم الحدود البحرية بينهما، وستعمد الكويت إلى استخدام علاقاتها الدولية في سبيل تعطيل البدء بالمشروع قبل حسم هذا الملف.
أخيرا وفي سياق الصراع الأمريكي ـ الصيني، أُعلن في اجتماع مجموعة العشرين في نيودلهي في أيلول 2023، عن اتفاق لإنشاء ممر اقتصادي يربط جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC) والذي ستكون إسرائيل جزءا منه، وهو موجه ضد مبادرة الحزام والطريق الصينية لمواجهة تزايد النفوذ الصيني، وهو في الوقت نفسه يرتبط بالمشروع الأمريكي المتعلق بإدماج إسرائيل في المنطقة، لأنها ستكون شريكة في هذا الطريق، وهو ما سيشكل تحديا حقيقيا أمام مشروع طريق التنمية، ليس للولايات المتحدة وحدها، بل للدول التي يمر بها هذا الطريق!
المطلوب اليوم هو وضع حلول لهذه الإشكاليات من أجل تحويل الفكرة إلى مشروع حقيقي، ولن تنجح «الشعبوية السياسية» المتعلقة بمشروع «طريق التنمية» في مواجهة هذه التحديات الجوهرية والحقيقية!
كاتب عراقي