في أول حوار معي بعد فوز قصّتي “3٠ قطعة لجسد الرغيف”، بأوّل جوائزي في مسابقة للقصة القصيرة، سألني الصحفي: بمَن تأثرت؟ وكان هذا سؤالاً شائعاً في الحوارات، مع الأدباء الشباب نهاية سبعينات قرن مضى، وربما حتى الآن.
قلت قبل 46 عاماً: – “عبد السلام العجيلي، حسيب كيالي، زكريا تامر من السوريين، يوسف إدريس من العرب، أنطون تشيخوف من العالميين”، وأضفت: – “أدرّب نفسي أن تكون لديّ مَعِدَةٌ جيدة؛ لتهضم إبداع هؤلاء الأساتذة، وألّا تُعيد إنتاجه”.
أتذكر هذا الآن، وقد دأبتُ على مُراجعة نفسي، في ما أقوله وأكتب، فأجدني مازلتُ عند ذاك الجواب، إذا سألني أحدٌ الآن، مثل ذاك السؤال.
– لماذا زكريا تامر؟
لأنّ التامري، ذاك الحدّاد الدمشقي، قد أحدث نقلةً نوعيةً في القصة السورية الحديثة، بعد عبد السلام العجيلي، وحسيب الكيالي من جيل الخمسينيات، ثمّة مواهب الكيالي شقيقُ حسيب الأكبر، وأوّل رئيس لرابطة الكتاب السوريين؛ ولولا فرارُه القسري إلى موسكو السوفيتية آنذاك، وانقطاعه ربما عن القَصّ؛ لكان قد أحدث نقلةً نوعية أيضاً في القصة السورية، بعد مجموعته اليتيمة “المناديل البيض” الصادرة أيضاً عن رابطة الكتّاب السوريين آنذاك 1951. وأحسب بأنّ واقعية السَرد الممزوج بالفكاهة اللمّاحة، لحكواتي الرقة هي التي ميّزت قصة العجيلي، كما ميّزت الواقعية الانتقادية الساخرة قصة حسيب كيالي الإدلبيّ، أمّا سرد التامريّ الدمشقيّ، فسخرية سوداء جارحة، تُنبّه القارىء، لِمَا سيحدث له، وحتى مِمّا سيحدث للقاص نفسه، وقد أبى أن يصير نمراً مُروَّضاً في قفص استبداد بحجم سوريا كلّها، حين وَدَّع زكريا تامرمجلة “المعرفة” التي يرأسُها في وزارة الثقافة بافتتاحية له، لم يكتب فيها كلمةً واحدة، بل اكتفى بنشر مقطع من كتاب “طبائع الاستبداد”، لعبد الرحمن الكواكبي بديلاً عن افتتاحيته، وكانت تلك رسالةً شُجاعةً، نادرة الحُدوث، في زمنٍ ترسَّخ فيه استبداد حافظ الأسد بسوريا وبمُواطنيها، غادر بعدها التامريّ إلى لندن؛ ليُكابد قبلنا تغريبةً قسرية، مثل تغريبتنا الراهنة، بعد ثورة 2011 ضد الأسد الابن.
– كما الحدّاد يصهر معادنَ الناس؛ ليُعِيد صياغتها
وهكذا فعل التامريّ في قصصه بلغة، لا تُشبه لغات سواه، وبأسلوبية خاصة، أنتجت نقلةً نوعية، التي أحدثتها منذ ستينات قرن مضى، حتى إنّ شريحةً من الكتّاب السوريين الشباب قد تأثر بها، فلم يخرج من معطفها، سوى عبد الله عبد من كتّاب القصة في السبعينات، حتى إن بعضهم أعاد إنتاج فضاءات التامريّ ذاتها، وقد أدركتُ تأثير هذا السِحر التامريّ باكراً، فحاولتُ جَهدي ألا أقع في الغِوَاية التامرية، برغم تقديري الشديد لها وله شخصياً.
ومنذ مجموعته الأولى “صهيل الجواد الأبيض” 1960، كانت بيروت محطّة انطلاقه، وبخاصة مع إشادة الشاعر اللبناني من أصول سورية: يوسف الخال بنتاجه الإبداعيّ، وكلّ مجموعة “مجلة شعر” الشهيرة آنذاك، وهكذا انضمَّ التامريُّ إلى جيل “الأنبياء المُبدعين” خارج وطنهم، مثل نزار قباني، ومحمد الماغوط، وغادة السمّان.. الخ، الذين ترسّخت شُهرتهم في بيروت، ثمّ عبرَت “خانِقَ الرَبوَة” نحو دمشق.
ودمشقُ عند التامريّ هي: “ربيعٌ في الرماد” 1963، وهي “الرعد” أيضاً عام 1970، وليست آخِر مجموعاته: “دمشق الحرائق” 1973، حتى توَّجَها بالعِقد الفريد بين إبداعاته بمجموعته “النمور في اليوم العاشر” 1978.
ثمّ صارت القصص التي كتبها في تغريبته اللندنية أكثر تكثيفاً وبراعة، كما في مجموعاته” نداء نوح 1994، سنضحك 1998، الحصرم 2000، تكسير ركب 2002، القنفذ 2005، أرض الويل 2015، ندم الحصان 2018، برغم أن بعضَها إعادة إنتاج، لِمَا كان قد كتبه، أسلوبيةً، وفضاءً قصصياً، مِن مِثل أن يُعيد استدعاء شخصية من الماضي؛ لتدخل دمشق بعد قرون من وفاتها، فيكشف لنا التامريُّ مُفارقة الماضي في حاضرنا، ذاك الذي ما زلنا نعود إليه كلّما مررنا بمِحنة، أو بكارثة دموية، فلا نلقى جواباً عند ماضينا عن مستقبلنا، وكأنّ التامري في مُفارقتِه تلك يدعونا إلى مستقبل، نكتب نحن تاريخه القادم، دون الوقوع في مرض الحنين المرَضِيّ إلى السَّلف.
– زكريا تامر.. الإنسان.
لم ألتقِ بالتامريّ، سوى مرّة خاطفة في مكتبه بمجلة المعرفة التي كان يرأس تحريرَها، قبل أن يُغادرها إلى منفاه القسريّ، ثمّ التقيتُه لأربعة أيام مُتواصلة، خلال انعقاد ندوة عن القصة السورية، أقامها المعهد الفرنسي في دمشق، قبل عشرين عاماً بمُبادرة من د. جمال شحيّد، وبمشاركة د. حسان عبّاس، فصرت ألتقيه في الجلسة الصباحية، ثم نذهب إلى الغداء معاً في مطعم قريب، ونعود إلى الجلسة المسائية، ثمّ إلى العشاء الذي يمتدّ بنا لساعات.
كانت تلك الأيام الأربعة، بامتداد أربعة عُقود من الزمان، وفيها عرفتُ التامريّ الإنسان جيداً، بعد التامريّ المُبدِع، ولا تضَادَ بينهما، ولا انفصام بين الشخصيتين، فقد بدا التامريّ شخصاً مُتواضعاً، وبخاصة حين بادر إلى إزالة الحواجز، بينه وبيننا ببساطة دمشقية آسِرة، حتى أوحى لنا، بأننا نعرفه منذ أجيال، وإلى جانب تواضعه كان لمّاحاً في تعليقاته وبسُخرية مُبطنة ومُحبّبة، وحين قدّم د. بطرس الحلاق مُداخلةً عن مجموعتي القصصية “الأنفاس الأخيرة لعتريس”، راصداً السخرية السوداء فيها مُنوِهاً، بما يُذكِّر بسُخرية التامريّ في قصصه، علّقتُ بطريقتي الحلمنتشية، مُلتفتاً نحو التامري: لا أعشق التوريث، فرَدّ التامري ضاحكاً، وقد التقطَ مقاصدي: – عليك لعنةُ المُورِّثين والوَرَثة. وضجَّ جميع الحاضرين بالضحك، لهذا التواصل الساخر في ما بيننا، وللتلميح المُبطَّن إلى توريث حافظ الأسد كرسيَ السُلطة لابنه، وكنّا قد وقعنا “بيان ال 99” الشهير آنذاك، وتلاه بيانُ “الألف مثقف سوري” اللذان أرهصا بثورة السوريين، قبل 11 عاماً من انطلاقتها.
على مائدة العشاء.. سألني التامريّ: إذا كنتُ أعرِف مِنطقةً هادئة في ضواحي دمشق، يُمكن له شراءُ بيت فيها بسعر مقبول؟
تداولنا في أفضلية المواقع حول دمشق، وهو يُصغي باهتمام، فسألته: – تعبتَ من تغريبتك.. أليس كذلك؟.
هزّ التامري رأسه، فقد كان، وما يزال يرغبُ بالعودة إلى دمشق يوماً ما، لكن قراره انطوى في ما يبدو، بعد المجازر الدموية للنظام منذ 2011 وحتى اليوم، وكان نزار قبّاني أيضاً في آخر زيارة له إلى دمشق قبل وفاتِه، قد عرض على الحاج رياض نظام الذي اشترى بيتَ عائلة القبّاني في حيّ “مئذنة الشَحم”، أن ييبعَهُ إيّاه؛ ربما ليعود نزار إلى دمشق من تغريبته، وإلى بيت العائلة تحديداً، ولكن ذلك لم يتحقّق له.
– بين حسيب وزكريا.
في جلسة مسائية مع التامريّ آنذاك، همستُ له:
– أرسل لي حسيب رسالةً من دُبَي بخط يدِه يذكُركَ فيها.
فابتسم زكريا هامساً: – الله يجيرنا.
قلت: – قرأ الكيالي اسمكَ إلى جانب اسمه في حوار أجرته معي جريدةٌ إماراتية، ذكرتُ فيه: بأنكما مِن أساتذتي في القصة القصيرة.
سألني التامريّ مُمتلئاً بحُبِّ الاستطلاع: – وماذا قال حسيب؟ قلت: كتب هكذا: – منيح حطيت زكريا مع اسمي.. مو مع عادل بلا شنب.
فضحك التامري طويلاً: – لسانُه أطول من الحَيِّة الألَفِية.
“يقصد الأفعى التي تُعمِّر ألفَ عام كما يُقال”.
ثمّ أمضينا وقتاً نتذكرُ فيه مُفارقاتِ حسيب وسخرياته، قبل رحيله عن دمشق أيضاً.
*- بعيداً عن دمشق.
أتنهدُ في سِرّي: محاولاً أن أفهم هذا السِرّ الأزليّ، حين لا تعترف دمشقُ – وربما كلّ سوريا – بأبنائها المُبدعين، حتى يشتهروا خارجها، أو يستشهدوا لأجلها، أو يعودوا إليها مَحمولين على الأيدي في جنازاتهم، حتى لو هاموا عشقاً بها، بين أحضانها الخضراء، أو حنيناً لها في بلاد الله.
بعد التحاقي بالتغريبة القَسرية التي عرفها زكريا تامر قبلنا، لم يكن ثمّة وسيلة للتواصل مع التامريّ، إلّا عبر الإنترنت، وكانت نادرةً جداً؛ لأسباب صحية أحياناً، ولعُزوفِه عن الانخراط الكلّي في زحمة وسائل التواصل، كما نفعل نحن، لكنّ التواصل المُستمر بيننا كان عبر إبداعه، ففي كلّ مرة أطلب قصةً له، عبر مُحرّكات البحث، حتى لو كنت قد قرأتها سابقاً؛ لأعيدَ قراءتها، وكأنّي لم أقرأها من قبل، أو هكذا تبدو لي طازجة في كلّ مرّة، وهو السرّ الخِيميَائِيّ الذي قلّما يقتنِصُه أحَدٌ في إبداعه، ومِن بين قنّاصِيه البارعين: أستاذنا زكريا تامر.
آخِرُ قصة استعدتُها له، قبل هذه التداعيات عنه كانت: “النمور في اليوم العاشر”، بل أعدتُ أيضاً نشرَها في مجموعة “شرفات سوريا” الثقافية التي أسّستها في تغريبتي؛ كبديل عن المنبر الذي أوقفت صدوره في دمشق: “شرفات الشام”، حين بدأ إهدارُ دَم السوريين بعد 2011.
وتلك القصة، هي عن حالنا اليوم أيضاً؛ مادامَ ترويضُ المافيا الاستبدادية لشعوب الأرض مُستمراً، ومادام قِسمٌ من هذه الشعوب ترتضي ترويضَها في أقفاص الِسيرك الذي اسمُه: السُلطَة، أو بالتبعية لغير السوريين، كما يفعل قِسمٌ من السوريين للأسف، وهذه التبعية ترويضٌ أيضاً، حتى لو أنها من صِنف آخر.
*- بيزانسون… أيار 2024.
____________________________________________
من مقالات العدد الحادي عشر من مجلة (العربي القديم) الخاص بزكريا تامر – أيار/ مايو 2024