«التلاقح الثقافي» أو «من ثقافة إلى أخرى» كان محور مهرجان «الآداب المرتحلة» في دورته الرابعة في المغرب، الذي يقام كل عام في مدينة مختلفة، حيث التقى أربعون أديباً عربياً وأجنبياً، مطلع هذا الشهر في مدينة «فاس» هذه المرّة.
جاء في لسان العرب: «التلاقُح هو تبادلُ استفادةِ الأفكار بعضها من بعض أو اجتماعها لتوليد أفكار أسمى». أما معنى تَلْقيحُ العُقولِ فهو: تَطْعيمُها، وربما يكون في هذا المعنى (تلقيح)، بعيداً عن التباسات الذكورة والأنوثة، ما في كلماتٍ من وزن: تلقين، تخدير، تعميم، تمييز، تعديل، تحفيز، تنوير، وكلها ليست بعيدة عن هذا المعنى الذي يفيد أن هناك من يحفِّز ويميِّز ويُعتِّم، وكلها تضمر غياباً تفاعلياً ما، على الأقل لواحد من قطبي المعادلة، أو على الأقل وجود ما يشبه اليد العليا المتحكِمَة التي تؤكد بصورة مضمرة غياب جوهر «التلاقح/التفاعل».
في أفضل حالاته يبدو الأمر بهذا المعنى حبّاً من طرف واحد، لكننا متمسكون به! ولا نستطيع أن نفعل شيئاً غير ذلك، ففي اختفائه خسارتُنا التي لا تعوّضها ثقتنا الكبرى بما كنّا عليه، لأن الحياة دائماً أمامنا لا خلفنا، ثم إن علينا في وضعنا التراتبي الذي يحشرنا في الدرجة الثالثة من هذا العالم، أن نقبل بالقليل، وهي مسألة غريبة حقاً، لأننا نقبل بالقليل الذي يمكن أن يؤخذ منا مؤكداً حضورنا، والقليل الذي يقدّم لنا على ألا يكون فيه اكتمالنا.
إنها مرحلة المراوحة، بين أن نكون ولا نكون، في ظلِّ معادلةِ مَن حقق كينونته.
لذا، حين نقول إننا ما زلنا على قيد الحياة، فهذا يعني أننا نعيش اللحظة الماضية ونتشبث باللحظة الحالية، دون أن نملك الثقة بوصولنا إلى اللحظة التالية، لكننا لا نوقف السير نحوها.
في «طفولتي حتى الآن» يَرِدُ هذا القول:
«مُعضلتنا أننا لا نستطيع استعادة الماضي للعيش فيه، نستطيع أن نتذكّره، ولذا ليس لدينا خيار سوى أن نصعد عتبات المستقبل، مهما كانت مهشّمة».
الماضي تبني عليه أحياناً، لكن من العبث أن تسكن فيه.
ولكنْ هل ما نتأمَّله اليوم تلاقح ثقافي فعلاً؟
اليوم يبدو أقرب ما يكون إلى تلقيح اصطناعيّ، بوجود شخص حاضر، وعَيِّنةٍ من شخص غائب، قد لا يهمه أبداً أن يراك!
مفزع هذا الأمر، ففي غياب التكافؤ الإنساني الذي تحرسه آليةُ المؤسسات العسكرية والاقتصادية، والإعلامية، والدرامية، والثقافية… نبدو بشراً يتلصَّصون على الحياة؛ على الجانب الآخر، ويحاولون الاستماع إلى إيقاعٍ شاحبٍ لموسيقى أغنية في غياب كلماتها لا أكثر، لكنهم مصرّون على الاستماع إليها، مع إصرار الآخر على ألا يراهم إلا خطفاً.
لا يمكن أن تقوم فكرة التلاقح الثقافيّ على جدران ثقافية، هي للأسف، أكثر ارتفاعاً بكثير من كل جدران الفصل العنصري التي أقيمَتْ ولم تزل تُقام في هذا العالم، فمن يرفع الجدار هو الفكرة، ولذا فإن الفكرة أعلى منه دائماً بكثير. وثقافيّاً، ليس ثمة صعوبة لاختبار هذا الوضع إن كنت تملك وسيلة اتصال مع الجانب الآخر من هذا العالم.
اليوم، يقول لك أيّ وكيل أدبيّ: إن الجهد الذي نبذله لإقناع ناشر غربيّ بنشر رواية عربية، يساوي عشرين ضعف الجهد الذي نبذله لإقناعه بنشر أي رواية قادمة من أيّ مكان في هذا العالم، وغالباً نفشل!
ليس الناشر هنا هو الجاني، بل المنظومة الكبرى للقوة السياسية الثقافية العسكرية المسيطرة، التي تحرث أرضاً شاسعة من الصعب أن تنمو أشجارك فيها، قوة لم تزل تنظر إليك كجزء من مزرعتها الكونية، الاستعمارية؛ لقد خرج الجنود من داخلها، لكنها محاطة بفوهات بنادقهم الآلية وأجهزة المراقبة والتحكم عن بُعْد ووسائل القتل التي تتيح لهم محوك في طريقك للُقْمَة خبزك، بينما هم يشربون ويضحكون في حفل شواء على بعد آلاف الأميال.
معضلة كبرى تلك، لكننا رغم هذا، لا نستطيع أن نتوقف عن البحث عن كل ما هو جميل على الضفة الأخرى، مع أن فكرة التلاقح الثقافي، على جماليتها ونبلها وطهارتها، فكرة غير قادرة على الاكتفاء بهذه الجماليات وبهذا النبل وهذه الطهارة مرجعاً، لأنها فكرة مُنتَهَكة؛ منتهَكة بفكرة الإرغام والتّركيع والمحو والتغييب باستخدام أعتى وسائل القوة لإجبار البشر على القبول بما لا تقبله الفطرة البشريّة.
… وفي الحكاية الفلسطينية، كقضية عدالة كبرى، وقفتْ إلى جانبها أُمم الأرض عبر مئات القرارات، يبدو الأمر عويصاً للغاية، ويبدو التلاقح الثقافي مع من ننشد التلاقح الثقافي معهم أمراً مستحيلاً؛ فالكاتب الصهيوني الذي يُقيم في بيت أبي يتم احتضان كتابه الذي يتحدث فيه عن البيت الذي سرقه، لكن لا يسمح لي أن أتحدّث عن ذلك البيت باعتباره بيتاً لي، مسروقاً، ولذا فإن كتابي غير مسموح له بالوجود في إطار هذا التلاقح.
ذات يوم كتبتُ: «إذا أراد الكاتب الفلسطيني أن يصل إلى العالم فإنّ عليه أن ينسى، أما إذا أراد الكاتب الصهيوني الوصول إلى العالم فإن عليه أن يتذكّر».
أيّ جحيم هذا، أن يكون التلاقح الثقافي قائماً على محو ذاكرة الطرف الآخر؟!
… ثمَّ هل نعني بالتلاقح الثقافي كلّ فرع من فروع المعرفة أو الجماليات، أم مواضيع محدّدة؟ هل يمكن أن يكون هناك تلاقح ثقافي في ظلّ غياب تلاقح علميّ مثلاً، ما دام الأخير ينهض على فكرة التطوّر وتوفير ظروف أفضل (كما هو مفترض) للبشر على وجه الكرة الأرضية ليعيشوا باحترام؟ هل يمكن أن يكون هناك تلاقح ثقافي، والتلاقح الاقتصادي قائم على السّلب والإفقار، والقتل، بل الإبادة، كلما اقتضى الأمر؟ وهل يمكن أن يكون هناك تلاقح ثقافي في وقت يصرُّ فيه الجانب الآخر على أن تكون الحرية والديمقراطية والحقّ في التعليم والصّحة وما إلى ذلك، حريات داخلية، والجوع والديكتاتوريات ووسائل المراقبة وفنون الإذلال هي وحدها المسموح بتصديرها إلى الخارج.. إلينا؟
ثم ما هي القضايا التي يمكن أن ينهض عليها التلاقح الثقافي، بحيث لا يكون تلقيحاً. وبحيث لا ينفجر الغرب في وجْهنا في أيّ لحظة، كلّما تجاوزنا أي حدّ رَسَمَهُ على الأرض أو في الهواء؟ الحدّ الذي يحرس فضاءَ المحرّمات التي تحوّلت إلى ما هو أقوى من الدين نفسه، مثل أكذوبة معاداة السامية لحماية العنصرية والفاشية وتوزيع رخص القتل والهدم على المجرمين هنا.
وبعـــد: هل التلاقح الثقافي مجرد ترجمة كتاب، أو دعم إنتاج فيلم مشترك بشروط يعرفها كلّ من عمل في هذا المجال؟ هل هو منح خشبة المسرح لمغنية، أو مغنٍ، لمدة ساعة بهدف تذوّق وجبة سمعية غريبة، يتم بعدها التصفيق لها أو له، وفي البعيد يقتلون أهلهما؟
تلاقح؟ تلقيح؟ تلاقح؟ تلقيح؟
“القدس العربي”