على هامش جدول أعمال معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، الذي يعد من أضخم المعارض العالمية للكتاب والثقافة، أقيم حوار شيق حول مستقبل العالم العربي بعد عقد «الربيع العربي» ومناقشة للكتاب الجماعي: «الربيع العربي والتغيير.. سؤال المستقبل» الذي أصدرته المؤسسة الألمانية المغاربية للثقافة والاعلام «ماغدا» ومن نشر دار «ارتحال» في تونس. الحوار احتضنته مجلة دار نشر «Vorwärts»الألمانية المرموقة في جناحها في المعرض. وأدار الحوار الكاتب الصحافي يورغ آرمبروستر.
حيث تحدث منصف السليمي رئيس المؤسسة الألمانية المغاربية للثقافة والإعلام عن أهمية هذا العمل الفكري المتميز، الذي يعتبر قصة تستحق أن تروى، ومن خلالها يمكن تدوين لحظات تاريخية شهدها العالم وعشنا تفاصيلها وتداعياتها في حياتنا اليومية كأفراد وكمجتمعات. وقال السليمي لـ»القدس العربي» لقد كانت رحلة الإعداد لهذا العمل الفكري، في دوامة صعبة، بدءا من جائحة كورونا وتداعياتها، مرورا بأحداث واضطرابات في عدد من البلدان العربية وأحدثها في تونس مهد «الربيع العربي» وصولا إلى زلزال حرب أوكرانيا. الأمر الذي زاد في حدّة الأسئلة المطروحة حول المستقبل، لأننا وجدنا أنفسنا في حالة تفكير وتأمل في زمن تحولات كبرى.
لا يتعلق الأمر بمجرد أحداث عابرة، بل تحمل ملامح تحولات تاريخية ومتغيرات في بنيات المجتمعات المعاصرة وثقافاتها. فقد كشفت تداعيات جائحة كورونا وضروب الحروب الجديدة وظواهر مجتمعية مثل الشعبوية والتطرف، آثارا وتشوّهات على أنماط الحياة ونظم الاقتصاد والديمقراطيات العريقة، وها هي تحدث مفاعيلها الأكثر دراماتيكية في الديمقراطيات الناشئة كما تزيد من مأساوية أوضاع بلدان أخرى في حالة حروب وأزمات.
إن التأمل في ظواهر الشعبوية وحركات الثورات المضادة والتطرف بتوجهاته اليمينية واليسارية والدينية والقومية، عملية فكرية تزداد صعوبتها، أولا بفعل تكثّف وسرعة التواصل بين الأفراد والمجموعات والمجتمعات، عبر تكنولوجيا الإعلام والاتصالات الحديثة؛ وثانيا، في ظل الاضطراب الشديد بين اتجاهات عولمة الاقتصاد والعلاقات بين البشر من جهة، ونزعات الحمائية وصدّ الهجرة من جهة مقابلة؛ وثالثا بفعل تغير المناخ وتأثيراته المتفاقمة في أوضاع العالم ومستقبله. وبحسب السليمي يشمل هذا العمل الفكري استشراف مستقبل دور الشباب والمرأة والفئات الاجتماعية التي حملت مشعل الكفاح من أجل العدالة والكرامة ومكافحة الفساد، لكنها ما فتئت تتعرض لضغط كبير خلال عقد «الربيع العربي» الذي تزامن مع تحولات دراماتيكية في أشكال التواصل وفي الرقمنة ومتغيرات مذهلة في الحياة والمناخ، وصولا إلى مساءلة أوروبا والغرب، حول مآل الدعم الذي تعهدت بتقديمه فهل كان له ثمار في الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية؟ أم أدى وظائف أخرى؟
من جهته يرى مدير مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، الرباط عبد الله ساعف وأحد المشاركين في تأليف هذا الكتاب، أن إثارة التساؤلات حول طبيعة المسارات والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أحدثها الربيع العربي باسم الدفاع عن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ومكافحة سوء الحكامة والرشوة: هل كان الأمر يتعلق بديناميات غير عادية خارجة عن المألوف، وبظروف استثنائية تشكل قطائع؟ أم أنها كانت حلقات عادية دون دلالة وأهمية حاسمة في التاريخ العميق لبلدان المنطقة؟ أم أنها لحظات ينبغي عدم إعطائها بعدا مبالغا فيه بالنظر إلى الحركات الشاملة والتوجهات التي تسجل على المدى الطويل.
ويتساءل ساعف هل ينبغي أن نواصل تقديم حصائل مرحلية لهذه الأحداث من منظور العلوم الاجتماعية، وهو ما تم عدة مرات منذ انطلاقاتها الأولى؟ (هناك عدة إصدارات تتناول كل سنة تقريبا هذه الأحداث، وعدة مؤلفات تتناول أحداث الربيع وتؤرخ له بعد كل خمس، أو سبع، أو عشر سنوات). هل أصبحت مسارات الربيع العربي بعيدة فعلا زمنيا، وتم استهلاكها إلى حد كبير وتجاوزتها تماما أحداث وأفعال تنتمي إلى سياق زمني وإلى منطق جديد؟ يبدو أن العديد من المساهمات الواردة في هذا الكتاب تعتبر أن الموجات الأخيرة للاحتجاجات (في السودان، والجزائر، ولبنان، والأردن، والعراق وغيرها) هي امتداد للربيع العربي، لكنها تعتبرها أيضا متواليات مكونة للحظات مختلفة جذريا، وتيارات اجتماعية لها طبيعة مختلفة. ويبقى من الواضح أن الربيع العربي يظل حدثا مرجعيا في التاريخ الراهن للمنطقة. ويجمع هذا الكتاب المساهمات التي قدمت خلال لقاء تم تنظيمه عن بعد خلال شهر مايو/أيار 2021 حول تقييم حصيلة الربيع العربي وآفاق التغيير في العالم العربي. وهو يتوقف عند الوقائع والأحداث والتوجهات المختلفة المرتبطة بشكل أو بآخر بما سمي «الربيع العربي»: البحث في الأبعاد الثورية أو فقط الإصلاحية منذ ديسمبر/كانون الأول 2010، تسليط الضوء على الثقافات الجديدة للاحتجاج الاجتماعي التي تطورت في المنطقة، ومحاولة فهم التشكيلات الجديدة للحركات الاجتماعية، التي ما زالت فاعلة اليوم، ومكانة ودور مختلف الفاعلين، وصعود دولة اجتماعية جديدة نتيجة وباء كوفيد 19 (عبد الله ساعف).
لقد لعبت المرأة دورا كبيرا خلال هذه الوقائع، حيث تموقعت في قلب هذه الأحداث المؤسسة، سواء خلال وقوعها أو لاحقا داخل مناطق النزاع التي ظهرت هنا أو هناك. وقد عانت من جميع أنواع العنف (اختطاف، اغتصاب، تحرش، زواج مبكر، تهديدات جنسية، إلخ). إلا أن الوضع يبقى مختلفا بين دولة وأخرى، ويتوقف على مستوى العلمنة، وعلى المكانة التي تحظى بها التقاليد. بعد اللحظة الثورية، لاحظ المحللون أنه مهما كانت أهمية هذا الدور خلال هذه الفترة المضطربة، فإنه جرى إبعاد المرأة عن مراكز القرار، بمجرد عودة النظام القديم، بل إنه تم تسجيل عودة إلى العادات القديمة. لكن، وفي جميع الأحوال، يبدو أن المرأة صارت تتمتع بوعي جديد بقوتها. (إلهام المانع).
كما أبرزت أحداث 2010-2011 وتلك التي وقعت في الفترة الأخيرة مع موجات الاحتجاج في السودان والجزائر والعراق ولبنان، الدور الذي يلعبه الشباب في المنطقة. وصار واضحا أن شخصية «الشاب» لم تعد مسكونة بالخوف في مجموع المنطقة. وهو ما ساهم في إحداث تغيير عميق في المشهد مع الانتقال من تسلط متطرف إلى توزيع للسلطة بين عدة أقطاب أو فاعلين، ومع ولادة صحافة حرة بشكل متزايد، صارت تنتقد السرود ووجهات النظر الرسمية، إلى جانب تجسيد الشاب لتلك الصورة المثالية لتطور الفرد، ووضع آليات للإصلاحات، ومحاربة الهشاشة الاجتماعية وعدم تكافؤ الفرص (عثمان لحياني). إن لغز الأهمية التي أخذها الفاعلون الإسلاميون، رغم المسافة التي أخذوها إزاء أحداث الربيع عند بدايته، ما زال مطروحا ويحتاج إلى تفسير. حيث يتفق غالبية المساهمين في الكتاب، على مكانتهم المؤثرة التي كرستها الانتخابات، والتي تمكنوا من احتلالها على مستوى الإصلاح، نظرا لكونهم الأفضل تنظيماً والأكثر تجذراً في مجتمعاتهم، ونتيجة نزعتهم إلى الهيمنة والتي لوحظت في المنطقة العربية كلها (حسام دروش، راينر هوفمان).
الملاحظ هو أنه تمت إعادة إنتاج نموذج كلاسيكي وهو كالتالي: ظهور خط فاصل وواضح يفصل بين التيارات الثورية وهي تواجه أنصار الثورة المضادة من جميع الأصناف، وبروز تيارات إصلاحية، إضافة إلى تيارات محافظة غير متحمسة للتخلي عن الوضع القائم، لكن منظمي الحركات الاحتجاجية أو الناشطين والثوار المحترفين ليسوا وحدهم من يوجد في قلب الأحداث، فهذه الأخيرة هي، أساسا، ناتجة عن تضافر عدة عوامل وظروف، وهي أيضا عمل عميق للبنى الاجتماعية وللتحولات التي تحصل داخلها (ياسين البكري، آمال عبيدي). لا ينسى المحللون، في هذا السياق، التوقف عند لعبة التأثيرات الخارجية القوية للغاية وذات «النزعات التدخلية» القوية، خاصة علاقة القوى الخارجية بأحداث الربيع، مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وروسيا ودول الخليج، والصين.. لكن ما ينبغي ملاحظته هو أن جدلية الداخل والخارج تبقى بعيدة كل البعد عن كونها ذات اتجاه واحد. فالداخل تبقى له كلمته المؤثرة رغم كل شيء (كريستيان هانلت).
غالبا ما تُعزى انطلاقة شرارة الربيع العربي إلى الطبقة الوسطى الحضرية والمتعلمة. ويعتبر البحث الذي يتناول مشروع تغيير نموذج التنمية في تونس مع إجراء إصلاحات اقتصادية عرضاً متميزاً على مسلسل إفشال الربيع العربي على مستوى الاقتصاد السياسي. فالأنظمة القديمة أثبتت قدرتها على المقاومة. وهو نص يوضح، بشكل قوي، كيف يمكن للقوى القديمة المسيطرة أن تباشر عودتها وحضورها بشكل حتمي تقريبا (صغير الصالحي).
ولهذا السبب يعلن العديد من الكتاب أن هزات وانفجارات أخطر من تلك التي وقعت حتى الآن قد تحدث في المستقبل، وهي هزات يبدو، حسب رأيهم، أنها ستكون أكثر حدة، وتشددا، وأقل ميلا إلى تقديم تنازلات. وهو ما يعني أن خيبات الأمل، ومشاعر الإحباط، والندم إزاء ما وقع بلغت من القوة ما قد يجعل العنف المقبل غير مسبوق، كما يتوقع منصف المرزوقي أول رئيس منتخب في تونس بعد ثورتها، في حوار تضمنه الكتاب في شكل شهادة حول تجربته وتقييمه لعقد الربيع العربي. ويبقى أن هذه الحصيلة تتناول الواقع الحالي للمنطقة، وما تعلن عنه من آفاق مقبلة يسمح بفهم الأوضاع المختلفة التي تعيشها بلدان المنطقة.
ويشارك في المعرض حوالي 4 آلاف جهة عرض من 95 دولة. وإسبانيا هي ضيف شرف المعرض هذا العام. ومن الموضوعات التي يركز عليها المعرض هذا العام الوضع الراهن في إيران، بالإضافة إلى ذلك يعتزم الكاتب السويسري كيم دي لا هوريزون الحائز جائزة الكتاب الألماني لعام 2022 عن روايته «كتاب الدم» زيارة المعرض. كما تشارك الكاتبة الأمريكية دونا ليون التي حققت أعلى المبيعات أيضا في المعرض، للتحدث عن حياتها وعملها. وينتهي المعرض يوم الأحد المقبل بتقديم جائزة السلام لتجارة الكتب الألمانية للكاتب الأوكراني سرحي زهدان.
“القدس العربي”