تدفع الشعوب العربية أثماناً باهظة لفساد أنظمتها السياسية، وتتكبد الكثير من الخسائر الحقيقية بسبب أن هذه الأنظمة حولت بلادنا العربية إلى بيئات طاردة للمبدعين والمؤهلين والعباقرة والأيدي العاملة الماهرة، حتى أصبحت أفضل النخب العربية المؤهلة تتصدر القطاعات المختلفة في دول الاغتراب بينما تغيب عن بلدانها الأصلية، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تضييع الكثير من الفرص الذهبية على البلاد العربية.
ثمة أعداد متزايدة من المؤهلين العرب يهاجرون من بلادهم ويتركونها بحثاً عن بيئة حاضنة بدلاً من البيئة الطاردة في أوطانهم، وهو ما يؤدي إلى نتائج مرعبة على مختلف المستويات، حيث تتعمق الأزمة الاقتصادية وتزداد نسب البطالة ويرتفع منسوب الفساد والمحسوبية والرشوة، وغير ذلك من المظاهر التي ترتبط بغياب المؤهلين وأصحاب الكفاءات العالية.
ثمة أعداد متزايدة من المؤهلين العرب يهاجرون من بلادهم ويتركونها بحثاً عن بيئة حاضنة بدلاً من البيئة الطاردة في أوطانهم
في العالم العربي تصل نسبة البطالة في أوساط الشباب إلى 28% في المتوسط، وترتفع عن ذلك بكثير في بعض الأقطار، وهذا يعني أكثر من ربع الأيدي العاملة من الشباب في مقتبل العمر معطلين عن العمل، بينما تهوي هذه النسبة إلى 8% في الولايات المتحدة والعديد من الدول المتقدمة، وهذا بسبب التشوهات التي تعاني منها الاقتصادات العربية والمنسوب المرتفع للفساد، والبيئات الطاردة للمفكرين والباحثين ورجال الأعمال والمستثمرين ورؤوس الأموال. قبل أيام اختار وزير العمل الأردني السابق الدكتور معن قطامين، أن يُطلق منصة رقمية اقتصادية من مدينة «أكسفورد» في بريطانيا، ورأى أن بريطانيا هي المكان الأمثل للوصول إلى العالم العربي وإلى الشباب العرب، وتقديم الخدمات اللازمة لهم من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة. الوزير قطامين ليس الوحيد الذي يختار العواصم الغربية لإطلاق مشاريعه الطموحة والكشف عن أفكاره، وهو ليس حالة نادرة، فمثله من كل الأقطار العربية من يتوافدون على لندن أو باريس أو واشنطن لإطلاق مشروعات اقتصادية أو سياسية أو حقوقية أو بحثية أو غير ذلك، ويجدون في هذه العواصم بيئات حاضنة لطموحاتهم، فيما يُشكل كل مشروع من هذه المشاريع «فرصة ضائعة» لبلادنا العربية. خلال فترة وباء كورونا فقد مئاتُ الأردنيين أرواحهم بسبب ضعف الإمكانات الطبية، وبسبب التخبط في القرارات على أعلى المستويات، وبسبب أن الحكومة انشغلت في نشر الجيش في الشوارع وتوزيع الخبز في الحافلات على مواطنيها المحبوسين في منازلهم، بينما كان العشراتُ من كبار الأطباء الأردنيين المؤهلين والمهرة يقدمون خبراتهم لمستشفيات أجنبية وعيادات طبية في بلاد الاغتراب، وهذا مثال آخر على الفرص الضائعة التي تدفع الشعوبُ العربية ثمنَها، إذ كيف سيكونُ الحالُ لو كان هؤلاء الأطباء في مستشفيات وعيادات الأردن؟ وكم يخسر الأردنيون بغيابهم هذه الخبرات والكفاءات؟ الحال نفسه، بل ربما أسوأ في الدول العربية الأخرى، ففي مصر التي هي مخزن الكفاءات والأيدي الماهرة والأنفس الطيبة، تقول نقابة الأطباء إن البلاد تفقد أكثر من سبعة آلاف طبيب سنوياً حيث يقررون الهجرة الى الخارج والعمل في دول أخرى، فضلاً عن ثلاثة آلاف طبيب يستقيلون سنوياً من العمل الحكومي، وينتقلون إما إلى القطاع الخاص، أو يعملون في مهن أخرى. والنتيجة أن نقابة الأطباء المصرية تقول بأن العاملين في القطاع الصحي بالكامل هم 38% فقط من الأطباء المرخص لهم مزاولة المهنة، ما يعني أن مصر خسرت 62% من أطبائها!
والخلاصة هو أنَّ «الفرص الضائعة» في بلادنا العربية تكبد شعوبنا الكثيرَ من الخسائر، ونزيفُ الكفاءات اليومي من الدول العربية هو سبب رئيس في تراجع هذه البلاد، وتردي أحوالها الاقتصادية والاجتماعية، وهذا كله مرده الى أن الدول العربية تحولت الى بيئات طاردة لأبنائها وليست حاضنة لهم، وهذه الظاهرة ينبغي أن تكون محل بحث ودراسة من أجل تجاوزها ومعالجة تداعياتها.
كاتب فلسطيني
“القدس العربي”