بهذا الفيلم، يقدّم جوناثان ميلييه، الذي عمل في أفلام وثائقية قصيرة، حول حدود سبتة أو القارة القطبية الجنوبية أو اختفاء لغة تاوشيرو في منطقة الأمازون البيروفية، تمريناً في الدقة البنائية والدراميّة في سرد ما هو بالأساس تشويق مثير بلا أي نوع من الإثارة. يقدم ميلييه فيلماً أولياً لافتاً يتناول موضوعات المنفى والعدالة والهوية تحت غطاء قصة منظمة سرية تبحث عن مجرم حرب سوري سابق.
العالم الذي يجذب الجمهور إلى الفيلم، هو عالم الصوت. عالم من الصراخ المكبوت، والتنفس المخيف، والخطوات المحسوبة للاقتراب من أتباع الجحيم الذي يبدو أن الشخصية الرئيسية قد هربت منه. لقد مات على أية حال، كما علّق أحد جنود الأسد في المشهد الافتتاحي، بعدما ترك حامد (آدم بيسا) مع سجناء آخرين في الصحراء. الجندي ليس مخطئاً تماماً. لقد مات جزء من أستاذ الأدب السابق، الذي اعتُقل مثل عدد لا يحصى من منتقدي النظام. الجزء الذي لا يزال على قيد الحياة يفعل ذلك لغرض واحد فقط. في فرنسا، بصفته عضواً في منظمة سرّية، يتتبع الجلادّين الذين كان عليه أن يعاني بشكل مباشر من أفعالهم. لم ير وجه الرجل قط، لكنه يعتقد أنه يميّز صوته أينما ذهب، إلى أن يجد ضالته في جامعة ستراسبورغ. وهناك يتقرَّب أكثر فأكثر من طالب الكيمياء المشتبه به (توفيق برهوم)، مهنياً ونفسياً. عملية مؤلمة ذات معنى مزدوج هي محور هذا الإنتاج الدقيق.
حبكة الفيلم، المبنية على أحداثٍ حقيقية، تترك عمداً رعب التعذيب الذي لا يمكن تصوّره في الظلام من أجل استحضاره بشكل أكثر إثارة للقلق. تسجيلات روايات الضحايا التي يسمعها حامد ليلاً تسمح بتظهير صدمته. يدمج المخرج وكاتب السيناريو الدراما النفسية في آليات تليق بفيلم نوع، كما يشكك في تصرفات وموثوقية بطل الفيلم. “الأشباح”، العنوان الأصلي الغامض للفيلم، هي الظلّ الطويل لنظام الأسد الإرهابي، وجلاديه السرّيين الذين دخلوا أوروبا كلاجئين، وأخيراً وليس آخراً، أشباح الماضي. هذه الأخيرة تصيب الشخصية الرئيسية المكلومة في الليل، بشكلٍ عضوي قمعي. تمثيل مدروس وبنية مكثَّفة ولوحة من الألوان الزرقاء والرمادية والسوداء يستحضران تشابك اللاوعي لإنشاء باكورة سينمائية مصقولة يزداد توترها بسبب الأبعاد الأخلاقية والوجودية للأحداث.
لاجئاً في فرنسا، يجوب حامد شوارع ستراسبورغ بحثاً عن أحد جلّاديه السابقين. حامد عضو في مجموعة سوريين تتعقّب مجرمي الحرب في أوروبا، ولا يملك في البداية سوى صورة غير واضحة للجلاد، أحد “الأشباح” في الفيلم، والذي يشير عنوانه أيضاً إلى زوجة البطل وابنته المتوفيتين. من قصة الحداد هذه، يرسم جوناثان ميلييه تحقيقاً على حافة فيلم تجسّس، ولكن بناءً على بنية وتأثيرات متكررة. بشكل متزايد، تعمل لقطات قريبة وطبقات سميكة من الموسيقى الإلكترونية على دفع المطاردة بين الضحية وجلّادها المفترض، حتى يُعثر عليه في النهاية داخل أسوار الجامعة. في حين أن الحبكة تترك بعض الشكّ حول الهوية الحقيقية للجلاد، إلا أنها تصبح أكثر وضوحاً في تصوير لعبة شدّ الحبل التي يمارسها حامد. يلتقي بامرأتين، تجسّد كل منهما آفاقين متعارضين: من ناحية، سعي تنفيسي للانتقام عبر تحقيق عدالة قصاصية، ومن ناحية أخرى، احتمال الحداد بسلام.
هذه هي المعضلة (الزائفة) في قلب المشاهد البعيدة لفيلم “الأشباح”، على سبيل المثال عندما يلجأ حامد إلى منزل إحدى المرأتين بعد إصابته على يد الأخرى – الأولى، لطيفة وهادئة، تطبّب حرفياً الجروح التي سبّبتها الثانية، اليائسة والغاضبة. يقوّض الفيلم تقاليده البنائية والنصّية (يسود غموض بوليسي رغم إمكان المتفرج تخمين النتيجة مبكراً)، ويكافح من أجل البروز، باستثناء تسلسلات تبدو مدمجة بعناية للتعويض عن افتقاره إلى التفرّد. هذا هو الحال مع الفترات التي يتواصل فيها حامد مع الحرّاس السوريين الآخرين في شكل لعبة حرب متعددة اللاعبين، حيث يمكنهم تبادل المعلومات دون الكشف عن هويتهم. اللقطة النهائية، الأكاديمية للغاية، والتي ينظر فيها السجين السابق نحو الكاميرا في نهاية سعيه للتحرّر، تقودنا إلى خلاصة: من خلال الأشباح، نرى في الغالب الروابط.
- المدن