ملخص
إن ما يجري من تطورات في غزة قد يعصف بالفعل بالسلام الرسمي إلى مواجهات من نوع جديد تهدد منظومة العلاقات الإسرائيلية مع الدول العربية لا سيما من دون إقرار تل أبيب بخيار حل الدولتين.
مع تصاعد حال الاحتقان بين مصر وإسرائيل جراء استمرار العمل العسكري في قطاع غزة والتصميم علي استكمال العملية العسكرية إلى حدودها القصوى وعدم التراضي بتوقف العمل العسكري والارتكان لمشروع التهدئة المطروحة، تعود في الأفق بعض التساؤلات المتعلقة باحتمالات وسيناريوهات عودة المنطقة بأكملها للمربع صفر حيث يتعامل مع إسرائيل على أنها كيان محتل وسط محيط عربي معادٍ، وتتضاءل فرص السلام الحقيقي أو تستمر الصورة الراهنة بإقامة علاقات ولو شكلية بين إسرائيل والدول العربية على أن تنقل الأمور إلى ما بعد التسوية المتقطعة، أو التدريجية في حال انتهاء الحرب في غزة والبدء بالترتيبات الأمنية والاستراتيجية في عمق القطاع .
مؤشرات مهمة
في ظل ما يجري من تطورات عسكرية واستراتيجية متعلقة بالسلوك الإسرائيلي في قطاع غزة والاستمرار في العمل العسكري مما يفتح المشهد الراهن في الشرق الأوسط إلى مشاهد جديدة عدة تغلب فيها خيارات القوة على الخيارات الدبلوماسية، خصوصاً أنه بافتراض الوصول إلى إتمام عملية غزة والبدء بإجراء الترتيبات الأمنية من جانب واحد، فإن المشهد السياسي في الشرق الأوسط سيمضي في اتجاه تصادمي بين إسرائيل ودول جوارها، بخاصة مصر التي ترتبط معها بمعاهدة السلام الراسخة منذ أعوام طويلة.
ويحتمل أن تشهد العلاقات الثنائية تصعيداً يعصف بالوضع الراهن في العلاقات بين القاهرة وتل أبيب ويؤدي إلى تجميد، أو توقف العمل ببنود المعاهدة والبروتوكول الأمني الحاكم للعلاقات بين البلدين، في حال توقف المشهد عند سيناريو واضح ومحدد، مما يؤكد أن السلام الراهن قد يتجمد بصورة أو بأخرى ويدفع الأمر إلى مزيد من حال التوتر وعودة الأمر لما قبل إتمام توقيع المعاهدة، وقد يمتد إلى معاهدة وادي عربة بين إسرائيل والأردن في ظل مناخ معادٍ جديد، هذا بافتراض أن يبقى الوضع على ما هو عليه وضبط المشهد وعدم الذهاب إلى مواجهات عسكرية بين إسرائيل وجيرانها في الفترة المقبلة، وهو ما ينتقل من حالة غزة إلى الضفة الغربية حيث السلطة الفلسطينية الضعيفة التي ترى الإدارة الأميركية وإسرائيل ضرورة إعادة ترتيب أوضاعها والعمل على تعويم دورها .
تأكيدات محددة
مما يؤكد الأمر أن سيناريو الصدامات المتوقعة قائم ومحتمل وقد يؤدي إلى نتائج خطرة تمس جوهر السلام الإقليمي في الشرق الأوسط بأكمله وفي ظل سيناريوهات متعددة ربما تعمل في اتجاهات مختلفة وتركز على مسار السلام بأكمله على اعتبار أن نموذج السلام المصري- الأردني- الإسرائيلي استمر لأعوام طويلة وتماسك على رغم وجود أطراف مناوئة ومتحفظة على ما يجري، وترى أن القوة الإسرائيلية ووفرتها في المحيط العربي تدفعانها إلى العمل في وجه ما يجري، رداً على مكانة إسرائيل ودورها في الإقليم الذي تأثر بما جرى من حركة “حماس” والفصائل الفلسطينية، والمرشح أن يتكرر من قبل الشمال، حيث “حزب الله” وفي ظل ما يجري من مناوشات متدرجة ومنضبطة ربما تؤدي في مراحل معينة، وقبل توقف الحرب في غزة وإتمام العملية العسكرية، إلى الدخول في مواجهة يتخوف من تأثيراتها الجانب الإسرائيلي جيداً .
نماذج لافتة
يقابل هذا النموذج نموذج آخر يرى أن إسرائيل قد تذهب إلى إتمام العمل العسكري في غزة وتنتقل تدريجاً إلى إعادة ترتيب وتوفيق أوضاعها حفاظاً على وضعها في الإقليم مع دول جوارها الرئيسة ومنها مصر والأردن في درجة أولى وعدم الاصطدام مع أي طرف، بخاصة أن الترتيبات الأمنية في حاجة إلى دور مصري بالأساس في رفح وإلى دور لبعض الدول العربية لاحقاً في القطاع، سواء في الإعمار أو تنمية الأوضاع في غزة والضفة الغربية، مما يؤكد أن إسرائيل ستظل في حاجة إلى نطاقها العربي والإقليمي بالأساس لأن البديل قد يكون العمل بمفردها، وهو ما تستطيع أن تقوم به إسرائيل حتى مع الدعم الأميركي والأوروبي في إعادة ترتيب الأجواء والعمل على إيجاد علاقات جديدة مع الأطراف في الداخل الفلسطيني سواء سلطة العشائر أو السلطة الفلسطينية مع التركيز على الحل الأمني في المقام الأول، مما يؤكد أن نموذج التعامل يجب أن يتم ويعمل في سياق كامل ولو متقطع تدريجي.
وما بين هذا النموذج أو ذاك، فإن إسرائيل مضطرة إلى التعامل في محيطها وإلا فإنها ستدخل في مواجهات تعود بالعلاقات لدائرتها الأولى، فالمواجهات العسكرية أو الدخول في مسلسل الإنهاك الاستراتيجي والعمل على دوائر متقطعة ومتراجعة، مما يؤكد أن خيارات إسرائيل تراوح ما بين حدود التصعيد أو المواجهة المتقطعة أو العمل من خلال تجميد الوضع الراهن، والحل على مراحل من خلال بث رسائل مهمة بأن تل أبيب لا تريد الصدام مع الجميع، إذ كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هو من وقّع اتفاقات السلام مع دولة الإمارات العربية والبحرين والسودان والمغرب.
ويسعى نتنياهو في الوقت الراهن من خلال دور أميركي إلى إتمام صفقة سلام إقليمية بديلاً عن صفقة سلام مع قطاع غزة، بحيث تكون مقاربة السلام الإقليمي مع السعودية هي الجائزة الكبيرة التي يمكن أن تدفع إسرائيل إلى إتمام حضورها في غزة، والاتجاه إلى القبول بحل القضية الفلسطينية بالموافقة على خيار حل الدولتين، مما يؤكد أن الدور الأميركي يمكنه أن ينجز السلام الإقليمي، ويستكمل الوجود الإسرائيلي في الإقليم ويتجاوز بالفعل خيارات القوة والمواجهات العسكرية في غزة والقفز من الحال الراهنة في استخدامات القوة التي قد تعصف بالسلام الراهن المرشح لمزيد من التدهور في حال إقدام إسرائيل على فرض الترتيبات الأمنية من جانب واحد، مما قد يدفع مصر تحديداً إلى تبني خيار المواجهة والخروج من حال الصبر الاستراتيجي والتهدئة، وسيدفع مسار السلام التاريخي إلى مساحات أخرى من المواجهات، بخاصة مع تداخل الحل في رفح أي كان شكله أو إطاره مع متطلبات الأمن القومي المصري تجاه مناطق الحدود، مما قد يؤدي إلى سيناريو ترجيحي ما بين العمل العسكري والسياسي، خصوصاً أن الرهانات الإسرائيلية على بقاء مسار السلام الراهن غير صحيح في الاقل مع الأردن ومصر وقد يعرض اتفاقات السلام لخطر حقيقي .
أما التعامل مع دول السلام القريب مع إسرائيل، فلم يترسخ العمل الفعلي بهذه الاتفاقات ومن المؤكد أن ما جرى في غزة ستظل ارتداداته على مسار التعاون وسيكشف بعمق عما يجري ويؤكد أن هناك فوارق بين السلام الاقتصادي والإقليمي والسلام السياسي والاستراتيجي وهو الأمر الذي لا يمكن لإسرائيل تجاوزه في أي سيناريو، بخاصة أن ما يجري في غزة قد يكون منطلقاً لترتيبات أمنية أخرى ستجري في الإقليم انطلاقاً من حضور إسرائيلي مكثف في الترتيبات الاستراتيجية المحتملة في جنوب البحر الأحمر وفي الممرات العربية والدولية، مما يعطي دلالات على أن إسرائيل ستكون الطرف الرئيس أو في الأقل المساهم في ما يجري من تطورات حقيقية في أمن الشرق الأوسط بأكمله.
رهانات مطروحة
أما الرهانات بأن ما يجري مرحلة موقتة وستمر في تاريخ المواجهات العربية- الإسرائيلية بعد انتهاء الحرب في غزة والبدء بإطار أوسع للتسوية وهو أمر يجب أن يؤخذ بحذر في ظل ما يجري من تطورات، قد تطيل الأزمة الراهنة وقد ترتبط بأبعاد أخرى رئيسة وهي عدم وجود تطورات مفصلية وانفتاح المشهد على ما هو عليه وإن جرت مواجهات متجددة في سياقاتها التي تعمل عليها إسرائيل، بخاصة أن التوقع بأن الأمور ستمر وأن السلام بين إسرائيل ومحيطها سيبقى ولن يهتز أو ينتهي أمر مهم ويجب تناوله في إطار مؤشرات سياسية واستراتيجية وأمنية، خصوصاً أن بناء ترتيبات أمنية بين إسرائيل ودول جوارها قد يمس جوهر اتفاقات السلام بأكمله، أو ينهي الحال الراهنة للسلام بين الطرفين حتى مع الانتهاكات والإجراءات والتدابير التي عملت عليها إسرائيل انطلاقاً من غزة في الوقت الراهن، ولن تتوقف في ظل ما يجري من تطورات ربما تمس أمن الإقليم بأكمله ولن تتوقف عند حدود.
يمكن التأكيد إذاً على جملة من الوقائع الراهنة وأهمها أن ما تقوم به إسرائيل بالفعل سيؤدي في مجمله إلى تداعيات على معاهدات السلام في الإقليم وقد تؤدي الأمور إلى صدامات عسكرية، بخاصة مع التصعيد العسكري في استخدامات القوة العسكرية في شرق رفح والإعلان الرسمي عن إتمام العملية العسكرية والمضي في المخطط الأمني بالكامل ومع توقف المفاوضات الراهنة والداعية إلى توقف إطلاق النار، فإن إسرائيل ستعمل وفقاً مقاربة أمنية واستراتيجية بحتة انطلاقاً من حسابات مخطط لها جيداً.
وستضع تل أبيب في اعتبارها أنه مع التخطيط السياسي والاقتصادي في قطاع غزة بل في الضفة أيضاً، فإنها في حاجة بالفعل إلى دور دولي وعربي يركز على التمويل وإتمام مشاريع الإعمار، مما قد يدفعها بالفعل إلى العمل وفق استراتيجية متنوعة غير صدامية مع التأكيد على ضرورة عدم التصعيد في مواجهة ما يجري، بخاصة أن إسرائيل تركز على خيارات إقليمية، وليست فلسطينية وسيظل السلام مع السعودية أحد أهم أولوياتها في إطار حسابات حقيقية مركزة مع عدم الصدام الكامل وإتاحة الفرصة لإمكان التعامل وفق مصالح بحتة، خصوصاً أن بعض التيارات داخل إسرائيل ترى أن الحل السياسي ما زال متاحاً وأن على إسرائيل الحفاظ على إطار علاقاتها مع جيرانها لأن العودة مجدداً لحال المواجهات مكلف جداً لها، وسيحتاج إلى إعادة تدوير استراتيجيات تعاملها لأنها لن تستطيع الحرب مع الجميع في الإقليم أو أن تستهدف من الفواعل من غير الدول ومع فصائل أيديولوجية تريد البناء على ما تم في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بل تكراره، مما قد يهدد بقاءها في محيطها الإقليمي بأكمله.
- إندبندنت