أمام رئيس الوزراء العراقي الجديد بعض السبل لترسيخ استقلال بلاده بعد سلسلة من الاعتداءات الخارجية، لكنها ستكون معقدة ومؤلمة.
* * *
أدى الفساد المستشري والاختلال السياسي إلى التقليل من شأن السيادة العراقية. فقد شنت مؤخراً إيران وتركيا هجمات متزامنة بطائرات مسيرة وصواريخ داخل “كردستان العراق”.
وتسببت هذه الهجمات في وقوع إصابات وتوقف الأعمال التجارية وأثارت غضب الرأي العام العراقي. وإضافة إلى ذلك، تُحرج مثل هذه الأعمال العدوانية التي تنفذها دول مجاورة للعراق، الدولة العراقية وتُبطل شرعية قادتها الذين سيبدون غير مستعدين وغير قادرين على الدفاع عن بلدهم.
من خلال مهاجمة العراق، تستهدف إيران وتركيا جمهورهما المحلي. فالنظام الإيراني غارق في احتجاجات مناهضة له في جميع أنحاء البلاد والتي اندلعت على خلفية مقتل مهسا أميني، وهي شابة كردية، في أيلول (سبتمبر).
وسعت إيران إلى إلقاء اللوم في مسؤولية الاحتجاجات على سكانها الأكراد. وحرصاً على عدم تكرار الأحداث التي سبق وأن حصلت في ثورة العام 1979، يهاجم النظام معسكرات الجماعات الكردية المعارضة الإيرانية المتواجدة في العراق منذ عقود.
وبالتزامن مع ذلك، أطلقت تركيا حملة عسكرية جديدة ضد “حزب العمال الكردستاني” في العراق ومسلحي “قوات سورية الديمقراطية” المدعومة من الولايات المتحدة في سورية، متهمة إياهم بتنفيذ هجوم إرهابي مؤخراً في إسطنبول.
وحذت الحكومة التركية حذو نظيرتها الإيرانية، حيث سعت إلى إيقاظ الشعور القومي قبل انتخابات العام 2023.
ويبدو أن الطريق معبّد أمام إيران وتركيا في العراق، الذي أسقط دفاعاته العسكرية والسياسية.
وكان رده على مثل هذه الهجمات ضعيفاً واهياً، حيث تمثل جل ما فعله بإصداره تصريحات (منددة). أظهر البلد ثقلاً دبلوماسياً ضئيلاً عندما رفع شكوى ضد تركيا أمام “مجلس الأمن الدولي” على خلفية قتلها تسعة مدنيين في أحد المنتجعات السياحية في تموز (يوليو).
ومع ذلك، لم تجرؤ بغداد على اتخاذ مثل هذه الإجراءات ضد إيران.
في آذار (مارس)، عندما قصفت إيران منزل مسؤول تنفيذي كردي يعمل في إحدى الشركات العاملة في مجال الطاقة في أربيل بعشرات الصواريخ البالستية على خلفية مزاعم غير موثقة ولا أساس لها بأنه كان قاعدة إسرائيلية، انحاز العديد من القادة العراقيين إلى الجانب الإيراني.
وبالمثل، خلال جلسة مجلس النواب المغلقة التي عُقدت في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) لمناقشة الهجمات على كردستان، ألقى العديد من النواب العراقيين اللوم على “حكومة إقليم كردستان” وبرروا تصرفات إيران.
ولم تُقدم الحكومة العراقية أو “حكومة إقليم كردستان” على اتخاذ إجراءات التظلم المعتادة، والمتمثلة في استدعاء سفير طهران وقنصلها العام أو استدعاء ممثليهما في طهران.
وفي الواقع، كما لو كان من قبيل الوقاحة المطلقة، طلبت إيران، بعد هجماتها داخل العراق، من مجلس الأمن إغلاق مقرات الجماعات الكردية الإيرانية في العراق.
مثل هذا الضعف والعجز عن الإمساك بزمام الأمور اللذين أظهرهما العراق يتسببان له بالحرج، لكنهما ليسا مفاجئين. فشبح النظام السياسي القائم على محسوبية الفاسد والمفسد أصبح يهدد الأمن القومي، بما يتخطى مجرد الروتين الإداري أو الهدر الاقتصادي.
وكان الاستغناء عن نظام الاستحقاق والكفاءة لصالح المحسوبية الطائفية في الجيش قد أدى إلى تقويض قدرة النظام على ضبط الأوضاع وتسبب بسقوط ثلث البلاد في أيدي تنظيم “داعش” في العام 2014.
في إطار التنافس على السلطة محلياً، تجد العديد من الفصائل السياسية العراقية في إيران أو تركيا راعياً وحامياً لها. وتسيء إيران إلى تقاربها الطائفي وقربها الجغرافي من الفصائل العراقية والكردية.
لكنها نفذت، كدولة، بشكل منهجي، خطة محكمة لإبقاء العراق ضعيفاً ومعتمداً عليها.
وتتحدى الميليشيات الموالية لإيران سلطة الدولة العراقية وتنفذ تعليمات إيران في المنطقة، كما يتجلى في هجماتها على دول الخليج.
إن النفوذ الإيراني داخل الحكومة العراقية، إلى جانب الهجمات المباشرة وغير المباشرة على البنية التحتية للطاقة والكهرباء في العراق، يُبقي العراق متعلقاً بواردات الكهرباء والغاز باهظة الثمن من إيران.
وهناك عائق آخر يتمثل في الأمن الغذائي للعراق، الذي يعتمد أيضاً على الواردات من تركيا وإيران. وتعمل إيران وتركيا معاً على تجفيف الأنهار العراقية.
وعلى الرغم من أنهما نادراً ما تتفقان، إلا أن حالة التخبط التي يعاني منها العراق تروق لكليهما.
وكانت الاحتجاجات التي اندلعت في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2019 قد عكست جزئياً ردود فعل قومية ساخطة ضد مثل هذه الانتهاكات لدول المنطقة ورضوخ العراق.
يعود وجود “حزب العمال الكردستاني” ومختلف الجماعات الكردية الإيرانية في “كردستان العراق” إلى عقود، ولكنها تشكل مبرراً مناسباً لتركيا وإيران لتوجيه ضربات جديدة إليها.
وتشكل “حكومة إقليم كردستان” هدفاً ملائماً أيضاً نظراً لضعفها الشديد، إذ تعجز عن منع الهجمات أو الدفاع عن نفسها أو الاعتماد على دعم العراق.
حتى أن الضربات الإيرانية والتركية المشتركة لم تتمكن من كسر صمت رجل الدين النافذ مقتدى الصدر.
والأسوأ لم يأت بعد إذا نفذت إيران تهديدها بالتوغل العسكري عبر الحدود بالتعاون مع الميليشيات المتواجدة في الجانب العراقي.
مع ذلك، فإن الحزبين الكرديين الحاكمين، كشركائهما السياسيين الشيعة والسنّة في الحكومة العراقية، أسهما في إضعاف الدولة العراقية، ولجآ إلى إيران وتركيا لتكونا راعيهما وحاميهما.
ويبدو أن قادة “حكومة إقليم كردستان” يتذكرون هويتهم العراقية متى ناسبهم ذلك، لا سيما عندما يتعرضون لهجوم. ومن خلال استخدام العنف، تسعى إيران وتركيا إلى تغيير الحسابات الكردية، لكي يصبح وجود “حزب العمال الكردستاني” ومختلف الجماعات المعارضة الكردية الإيرانية عبئاً وليس ميزة.
على الرغم من أن الانتهاك العنيف الأخير للسيادة العراقية لا يستهدف الولايات المتحدة، إلا أنه يعيق مساعي إدارة بايدن للتخفيف من حدة التوترات في الشرق الأوسط والتركيز على التحديات التي تشكلها القوى العظمى.
ومع ذلك، فإن هجمات إيران وتركيا تضران بهذا الموقف الأميركي وتشكلان تحدياً لها. وقد أدانت الولايات المتحدة الهجمات الإيرانية على وجه الخصوص، لكن لـ”حكومة إقليم كردستان” توقعات أكثر من ذلك، خاصة فيما يتعلق بتعزيز الدفاع الجوي.
ومع ذلك، يجب أن يصدر هذا الطلب عن بغداد لكي يلقى آذاناً صاغية، وهو أمر غير مرجح. فبموجب الاتفاق الاستراتيجي للولايات المتحدة مع العراق، تنحصر المهمة العسكرية الأميركية في البلاد في القيام بدور استشاري وهي خالية من الالتزامات الدفاعية.
وبغض النظر عن توفر العتاد والمنظومات العسكرية الأميركية، يبدو أن العراق يفتقر إلى الإرادة السياسية لمواصلة شراء أنظمة الدفاع الجوي.
سوف تشكل الهجمات الإيرانية والتركية المتزامنة اختباراً جديداً لرئيس الوزراء العراقي الجديد محمد شياع السوداني وقدرته على الدفاع عن سيادة بلاده. فالسياسة الخارجية والأمن القومي ليسا المجالين اللذين يبرع فيهما السوداني، لكن أجندته المحلية التي تُركز على محاربة الفساد وإصلاح العلاقات بين أربيل وبغداد مناسبة لتكون أساساً لبناء دولة أكثر قدرة على الدفاع عن نفسها.
وقد أسفر حجم وعمق الفساد المستشري في أوساط النخبة الحاكمة والدولة عن سلسلة من الولاءات غير الوطنية التي تجعل العراق عاجزاً أمام التهديدات التي تطال أمنه القومي.
وفي غضون ذلك، يمكن للتنسيق الأمني الأفضل بين “حكومة إقليم كردستان” وبغداد أن يؤدي إلى ضمان أمن حدود البلاد ودحض أي مبررات إضافية تتسلح بها الدول المجاورة. إن تنظيم الداخل العراقي وتنظيفه هو وحده الذي سيمكن العراق من إقناع المجتمع الإقليمي والدولي بدعمه في صيانة أمنه وسيادته.
*بلال وهاب: “زميل فاغنر” في معهد واشنطن.
*نشر هذا المقال في الأصل بالإنجليزية على موقع “ذي ناشيونال”. الترجمة العربية لمعهد واشنطن.
“الغد”