«أنا نتاج المصادفة، طفل الإيديولوجيات، ويتيم التاريخ. هتلر وستالين تآمرا ليحوّلاني إلى مشرّد. حسناً، أيكون حالي مأساوياً؟ كلاّ. ثمة الكثير من المأساة هنا وهناك، بما يكفي لكي يشعر أيّ كان أنه هاملت. الأرجح أن حالي أقرب إلى الملهاة. إنها (دهشة الروح المتفكّرة في ذاتها) وفي معضلتها، أو هكذا قال شليغل»…
أو هكذا قال شارلز سيميك (1938-2023) الشاعر الأمريكي من أصل صربي وأحد أهمّ الأصوات العميقة في الشعر الأمريكي المعاصر. وبمعزل عن مبدأ «مغالطة القصد» الذي يجعلنا ننساق عادة إلي تعليق أهمية توثيقية ـ نقدية مفرطة على ما يقوله المبدع عن نفسه، فإنّ القسط الأعظم من التصريح أعلاه يبدو صحيحاً تماماً. لقد ولد سيميك في بلغراد (يوغسلافيا السابقة) عام 1938، وعاش أهوال الحرب العالمية الثانية هناك، واضطرته معادلات تقاسم أوروبا الشرقية إلي الهجرة مع أسرته إلي فرنسا أولاً ثم إلى الولايات المتحدة، حيث درس ومارس العديد من المهن المتنافرة (خازن كتب، وبائع قمصان، ومحاسب، ودهّان) قبل أن ينتمي نهائياً إلى المجتمع الأمريكي واللغة الإنكليزية، ويكتب الشعر بهذه اللغة دون أن ينفكّ عن لغته الأمّ الصربو ـ كرواتية، فيترجم الكثير من أشعار فاسكو بوبا وإيفان لاليش وآخرين.
ذلك بعض السبب في أننا قلّما نعثر على التاريخ في الشعر الأمريكي المعاصر، مثلما نعثر عليه في نتاج سيميك الشعري. إنه أيضاً بعض السبب في أن ذلك «التاريخ» قلّما يغادر دائرة التساؤل الفينومينولوجي التي تبدو ـ وحدها تقريباً ـ القادرة على إعادة تعريف تجارب الماضي عن طريق استكشاف مدي ما تختزنه من غريب عجيب عبثي؛ وليس عن طريق كشف الغطاء عن غموضها. وبهذا المعني تصبح واضحة تلك العبارة الصاعقة التي أطلقها سيميك ذات يوم: «أظن أنني شاعر واقعي Realist وشاعر سوريالي Surrealist، مشدود إلى القطبين في آن».
كان أيضاً مشدوداً إلى مارتن هايدغر، ليس لأسباب فلسفية أخرى غير تلك المتصلة بما عُرف به الفيلسوف الألماني من انحياز إلى «الأشياء في ذاتها» الأمر الذي يفسّر تلك الطائفة الفريدة من القصائد التي كرّسها سيميك للأشياء: الحجر، الحذاء، المكنسة، الملعقة، السكّين، والشوكة؛ هذه التي يصفها كما يلي:
لابدّ أنّ هذا الشيء الغريب قد تسلّل
من الجحيم مباشرة.
إنها تشبه قَدَم طائر
يطوّق عنق آكل لحوم البشر.
وإذْ تمسكها بِيَدكَ،
وإذْ تغرزها في قطعة من اللحم،
فإنّ في مقدورك أن تتخيّل ما تبقّى من الطائر:
رأسه الذي مثل قبضتكَ
ضخم، أصلع، أعمى، بلا منقار.
والناقد الأمريكي كيفن هارت يعتبر هذه القصيدة تمريناً على «نزع الألفة» عن الأشياء، وتحويل أشياء الحياة اليومية إلي موضوعات صانعة للغرابة، في مستوي الانطباع الأوّل علي الأقل. وبالفعل، نحن أوّلاً أمام الشوكة في صورة شوكة الشيطان دون سواها، ثم يتبدّل السياق سريعاً لكي تصبح الشوكة قدم طائر، وبعدها ينخرط القارئ ذاته في سياق جديد يجعله آكل لحوم بشر، ليس بسبب العبارة ذاتها أساساً، بل بوحي من ممارسة يومية آدمية هي غرز الشوكة في قطعة اللحم. وأخيراً، يتبدّل سياق القصيدة بأسره حين تختلط المقارنة بين الشوكة والطائر والآدميّ، عن طريق اختلاط الاستعارات بين الرأس والقبضة الضخمة الصلعاء العمياء بلا منقار.
وسيميك بين هؤلاء الذين يؤمنون بوجود العناصر السابقة على اللغة، بعكس الإجماع الشائع الذي يلحّ على وجود نوع من التكافؤ بين اللغة والفكر هو الذي يكفل إمكانية الصياغة اللفظية للأشياء التي لا يستطيع الإنسان صياغتها فكرياً. إنه واثق، كما يقول، من وجود مرحلة تسبق طاقات الصياغة اللفظية، مؤلّفة من أشياء يتمّ الوعي بها عن طريق سيرورة من التجارب الحسّية والشعورية المعقدة، والتي لا توفّرها اللغة (إذا وفّرتها) إلا بواسطة ضغط تعبيري داخلي خفيّ.
وفي نصّ شهير يكتب سيميك: «إنني أطلق اسم الصمت على كلّ ما يسبق اللغة: العالم، وإحساس المرء بوجوده في نفسه. ولطالما فكّرت بأنّ الكلام أشبه بالصفير في الظلام. العالم، في قناعتي المتواضعة، لا يقتضي منّي أن أقول أيّ شيء. حين أكون متنبهاً وصامتاً، فإنني أبدو أقرب إلى طبيعة الأشياء. وإنّ عدداً من قصائدي المبكّرة هي محاولات لتحويل هذا المأزق إلى أسطورة خَلْق». لماذا يكتب الشاعر إذاً؟ أليست كتابته بمثابة كسر لذلك الصمت؟ ربما لأنّ الشاعر يقول ويكتب بوصفه مترجم الصمت وليس كاسره، وربما لأنّ اللغة موجة واحدة في عباب البحيرة العارمة لصمت بلا كلمات.
«الصمت الأمّ» Maternal Silence، هو التعبير الذي يستقرّ عليه سيميك حين يتوغّل عميقاً في وصف الحياة قبل مجيء اللغة، حين تسمح شروط المكان بالإصغاء إلى صوت الجماد: «الشعر يتيم الصمت. الكلمات لا يمكن أن تتساوى مع التجربة الكامنة وراءها. ونحن دائماً في البدء، تلامذة إلى الأبد. وكلما كان الصوت القادم من ذلك الصمت الأمّ عميقاً، تردّد صداه أوسع فأوسع». وذات يوم لم يتردد سيميك في الإعلان عن أنّ بعض أجزاء نفسه قد تحوّلت إلى سكّين أو شوكة أو فأس، فكيف في وسعه بعدئذ أن يختال بما تملكه اللغة من معنى حين يكون في حضرة… الأحجار والأشجار والعظام؟
ولقد تنبّه مجايلوه من الشعراء إلي هذه المَلَكة الفريدة بالذات، في مشروع شعري ظلّ عارماً مضطرماً وامتد على أكثر من 15 مجموعة شعرية (أشهرها «ما قاله العشب» «في مكان ما بيننا، يدوّن الحجر ملاحظاته» «تفكيك الصمت» «العودة إلى مكان مضاء بكوب حليب» «كوزمولوجيا شارون» و»رقصات في قاعة كلاسيكية»)؛ لكنه ظلّ مشروعاَ متجانس التطوّر، قلّما تقلّب أو شهد انقطاعات حادّة.
ومارك ستراند بين هؤلاء المجايلين الكبار، وعن شعر سيميك يقول: «قصائده تكشف، بوضوح جوهري، هيئة ومزايا عالم نبتكره سرّاً، ويطبع حيوّاتنا في ذرى توتّرها، وننكره غالباً لأنه أكثر واقعية من كلّ ما نعرفه. ثمة في قصائد سيميك إحساس بأنّ الصُوَر تسبق الأشياء، وأنّ العالم مخلوق الأسطورة، وأنه ما من شيء يتطابق مع الصورة التي نرسمها نحن له».
مختارات
قصيدة
في كلّ صباح أنسي كيف كانتْ.
أرقبُ الدخان يتصاعد
بخطوات واسعة، فوق المدينة.
ولا أنتمي إلى أحد.
وعندها، أتذكّر حذائي،
وكيف يتوجّب أن أنتعله
وكيف أنني، في الانحناء لعَقْد خيوطه،
سوف أتطلّع إلى الأرض.
٭ ٭ ٭
قصيدة رعويّة
جئتُ إلى مَرْج
كان العشب فيه صامتاً
وكانت الزهور
كلمات
رأيتُ أن البراعم
من لحم ودمّ
وأنها ترتعش وتفزع
وأنّ الريح كالسكّين
وهكذا جلستُ بين كلمة (حقيقة)
وكلمة (خرافة)
وأخرجتُ وعائي الفارغ
وملعقتي وسألتٌهما عن (الحُبّ)
وفي غمرة الصمت
وكان الظلام ينسدل
سمعتُها تناديني باسمي
بصقتُ علي راحتَيّ يدَيّ
لأقنص النجومَ فيهما
كالحُباحب
وأضيء طريق وصولها إليّ
٭ ٭ ٭
تفكيك الصمت
خُذْ أذنَيْه أولاً
بحذرٍ، لئلا تطفحا على الجانبين
وبصُفّارة حادّة شُقّ بطنه طولانياً.
فإذا وجدتَ فيها رماداً، أغمض عينيك
وذُرّه في أي اتجاه تهبّ نحوه الريح.
وإذا وجدتَ الماء، الماء النائم،
فاجلُبْ جذر زهرة لم تشرب منذ شهر.
وحين تبلغ العظامَ،
وليس إلى جانبك كلب،
وليس في حوزتك تابوت من الصنوبر
وعربة يجرّها ثوران صانِعان للصرير،
دُسّ العظام سريعاً تحت جلدك.
وحين تحدودب بكتفيك في المرّة القادمة
فإنكَ لا بدّ شاعرٌ بها تضغط علي عظامك.
الظلام الآن حالك.
ببطء وصَبْر،
فتّشْ عن قلبَه. سوف تحتاج
إلى الدبيب بعيداً في السماءات الفارغة
لكي تسمعه ينبض.
٭ ٭ ٭
بطيخ أحمر
بُوذاتٌ (1) خُضْرٌ
على منصّة الفاكهة
نأكل الابتسامة
ونبصق الأسنان.
قصائد نثر
سرقني الغجر ذات مرّة. سرقني أهلي منهم وأعادوني. ثم سرقني الغجر ثانية. وتواصل الأمر بعض الوقت. فمرّة كنتُ في القافلة أرضع الشاي الأسود من يد أمّي الجديدة، ومرّة تالية كنت أجلس إلى طاولة الطعام الطويلة أتناول إفطاري بملعقة فضية. كان النهار أولّ أيام الربيع. أبي الأوّل كان يغنّي في حوض الاستحمام، وأبي الثاني كان يطلي قُبّرة حَيّة بألوان طائر قارّي.
الحَجَر مرآة رديئة الأداء. لا شيء في باطنه سوى العتمة. عتمتُكَ أم عتمتُه؟ مَن يدري؟ وفي السكينة يقرع قلبُكَ مثل جُدجُد أسود.
٭ ٭ ٭
يطلقُ على كلب اسم رامبو، وعلى آخر اسم هولدرلين. كلاهما مهجّنان. حِكمتُه المفضّلة: «الحياة التي لم تُختبر ليست جديرة بالعيش». زوجته تشبه المرأة نصف العارية في لوحة دولاكروا «الحرية». ترتدي جزمة الكاوبوي، وتجمع من الغابة فُطْراً خطير الملامح. والليلة سوف يشعلان شموعاً طويلة وسيحتسيان النبيذ. وبعدها، سوف يفتحان الباب ليدخل الكلبان ويأكلا الفُتات تحت الطاولة. Entrez, mes enfants (3) سوف يهتف في وجه الليل، منحنياً من خصره بجلال عميق.
٭ ٭ ٭
يخطو الرجل الميّت، هابطاً من منصّة الإعدام. إنه يحمل رأسه الدامي تحت إبطه. أشجار التفّاح مزهرة. إنّه يشقّ طريقه إلى حانة القرية والجميع يتابعونه بأبصارهم. وهناك، ينتحي مقعداً ويطلب بيرتَيْن، واحدة له وأخرى لرأسه. تمسح أمّي يديها بمئزرها وتخدمه. الهدوء التامّ يخيّم على العالم. وفي وسع المرء أن يسمع النهر العتيق، الذي يحدث أن تختلط عليه الأمور أحياناً، فينسي ويتدفّق عائداً إلى منبعه.
٭ ٭ ٭
يوشك إبهامي على الانخراط في مغامرة عظيمة. «لا تذهب، رجاءً» تقول الأصابع. تحاول احتجازه. هنا تصل ليموزين سوداء تجلس في مقعدها الخلفي امرأة مقنّعة، ولا أحد وراء المقود. وحين تقف السيّارة، تتناول المرأة من حقيبة يدها مقصّاً ذهبياً، وتبتر الإبهام. نسافر الآن إلى شيكاغو، والعِقْب الدامي لإبهامي في يدها، تستخدمه لطلاء شفتيها.
قرنٌ من تجميع الغيوم. سفن الأشباح تجيء وتروح. البحر أعمق، أوسع. الببغاء في قفص المامبو يتقن لغات عديدة. القبطان في الصورة الفوتوغرافية القديمة دَهنَ وجنتيه بالأحمر. جَلبَ امرأة نصف عارية من البلاد الاستوائية، فأبقوها مقيّدة بالأصفاد حتى بعد مماته. وفي الليل كانت المرأة تصدر أصواتاً قد تكون أغنيات. القبطان روي عن نسل من رجال بلا أفواه، يعيشون على أريج الزهور. ذلك دفع زوجته وأمّه إلى تلاوة صلاة من أجل خلاص جميع الأرواح غير المعمّدة. لكننا، ذات مرّة، داهَمْنا القبطانَ وهو يخلع لحيته. كانت مزيّفة! وكانت له، تحتها، لحية أخرى مضحكة بدورها. ذلك كان عصر نُزهات الأرملة المنهمكة. لُغات الحبّ الميّتة كانت ما تزال قيد الاستخدام، لكن كان ثمة الكثير من الصمت أيضاً، والكثير من الصراخ الصامت المكتوم في أعلى الرئتَيْن.
٭ ٭ ٭
من داخل قِدْرٍ فوق الفرن ثمة من يتوعّد النجوم بملعقة خشبية. وسوى ذلك، لا شيء سوى الهدوء الخالي من السُحُب. إنها ساعة الرعاة.
………………………………………………..
(1) جمع بوذا.
(2) بلا عناوين في الأصل، من مجموعته The World Doesn›t End، 1989، المكرّسة بأكملها لهذا النوع من القصائد.
(3) بالفرنسية في الأصل: (أدخلا يا طفليّ)
“القدس العربي”