أشارت تقارير متقاطعة إلى أنّ دولة الاحتلال الإسرائيلي تواصل عرقلة انطلاق «أسطول الحرية»، الذي كان مقرراً له أن يبحر من ميناء توزلا غربي تركيا، ويضمّ 3 سفن تحمل مساعدات إغاثية وإنسانية إلى قطاع غزّة المحاصر؛ ونحو 280 من الناشطين والأطباء والمحامين والعاملين في المنظمات الإنسانية من 30 دولة، بينها الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا والنرويج وكندا وماليزيا. وهذا الأسطول يكمل مبادرة مماثلة عام 2010، شهدت تدخّل جيش الاحتلال الإسرائيلي واقتحام السفينة «مافي مرمرة»، في عملية أسفرت عن مقتل 10 أتراك وإصابة 28 من النشطاء.
الجهود الإسرائيلية لعرقلة المبادرة الجديدة تبدأ من مساعي وأدها في المهد، بوسيلة الضغط على جمهورية غينيا بيساوا التي يُرفع علمها على سفن الأسطول؛ أو عن طريق تدريب وحدات إسرائيلية خاصة على تكرار عملية الاقتحام بالقوّة، بعد رفد الاعتداء الجديد بطرائق تراكمت لدى جيش الاحتلال خلال 14 سنة أشدّ عنفاً وردعاً، وبمنهجية أعلى خبثاً وتلفيقاً واستفادة من عثرات الماضي. ليس من دون احتساب السياقات الراهنة للحروب الإسرائيلية المنفلتة من كلّ عقال في سائر أرجاء فلسطين، واقتران 6 أشهر من حرب الإبادة بمزيج من الارتباك والاستهتار إزاء تعاظم الرفض الشعبي والشبابي العالمي للتوحش الإسرائيلي.
وقد يكون مفيداً هنا، اتكاءً على هذه الخلفيات التي تؤطر مبادرة أسطول جديد للحرية، استعادة كتاب يتناول تفاصيل مساعي كسر الحصار على قطاع غزّة من بوّابة غير مألوفة، معقدة أيضاً من حيث اشتراطات القانون الدولي، وحمّالة أَوْجُه حساسة التأثير لجهة حروب الصورة و»السجال البصري» إذا جاز التعبير. عنوان الكتاب هو «الدليل البصري والإغارة على أسطول غزّة: الحصانة المحلية والصورة»، الذي صدر بالإنكليزية سنة 2022 ضمن منشورات I.B. Tauris؛ ولعله لا ينفكّ عن مفارقة تأليفية أولى تتمثل في أنّ مؤلفته هي الإسرائيلية معيان أمير، أستاذة الفنون في جامعة بن غوريون؛ ومفارقة سياسية وحقوقية تالية تعكسها خلاصات التدقيق النقدي في طرائق الاحتلال لتحريف الصورة والتحايل على القانون الدولي.
والحال أنّ مصطلح «الحصانة المحلية» Extraterritorial، أو ما هو خارج نطاق التشريع الوطني حسب منير البعلبكي في قاموس «المورد»، ليس طارئاً على العصور الحديثة، وثمة أمثلة كثيرة على أحكامه في الماضي السحيق وعلى امتداد سيرورات التطور السياسية التي استولدت أنساق الاشغال الدبلوماسية المختلفة. غير أنّ واحدة من الأطروحات المركزية في كتاب أمير تسير على النحو التالي: لم تكن الإغارة الإسرائيلية على سفينة «مافي مرمرة» بمثابة انتهاك صريح للقانون الدولي الذي يبيح حصانة محلية في عرض البحر وخارج المياه الإقليمية لدولة الاحتلال، فحسب؛ بل كانت جزءاً مكمّلاً لانتهاكات سافرة أقدم وأوسع وأشدّ وطأة تنهض عليها تنويعات الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزّة منذ العام 2007.
وتكتب أمير أنّ «المنطق المعقد خلف الدليل البصري المفقود [بصدد الغارة الإسرائيلية على السفينة] يمكن تحليله من خلال عدسة الحصانة المحلية؛ وهي هنا ليست جغرافية، أو قانونية، أو سياسية، فقط، بل بصرية أيضاً». وهذا يفضي تلقائياً إلى انتهاك صريح للقانون الدولي الذي ينصّ على أنّ نطاق السيادة الوطنية لا يشمل المياه غير الإقليمية، التي تُعتبر فضاءات مرور مشتركة؛ فضلاً عن افتقاد أي شرعية، ضمن القانون الدولي إياه، لمزاعم دولة الاحتلال بأنّ الإغارة على أسطول الحرية تقتضيها ضرورات الحفاظ على الحصار. وكلّ هذا لاح معزولاً، طبقاً لمنهجية الإغارة الإسرائيلية، عن هدف عسكري أساسي مبطّن هو إخراس وسائل البثّ المباشر الفعالة التي حشدها النشطاء على ظهر السفينة، تحسباً لهجمات الاحتلال على وجه التحديد؛ وهنا تتكثف الحروب الإسرائيلية على الصورة، سواء في محاولة طمس الأدلة أو التسبب في افتضاحها، سواء بسواء.
وفي مقابل مقاربة أمير، يُضرب مثال الفرنسي برنار هنري ـ ليفي، «الفيلسوف» كما يحلو له تسمية نفسه، وكما اعتادت وصفه وسائل الإعلام في فرنسا، الذي كتب يشرح أسبابه في استمرار موقفه الداعم لدولة الاحتلال (التي لا يتورع عن تسميتها «دولة اليهود»!) بالرغم من أنّ ردّ الفعل الإسرائيلي على «أسطول الحرية» 2010 كان في نظره عملاً «غبياً». كان في وسع الجيش الإسرائيلي أن يقتاد أمثال هذه السفن إلى ميناء عسقلان بشكل سلمي، قال «الفيلسوف»، دون «الوقوع في الفخّ التكتيكي والدعائي» الذي «تعمد نصبه عدد من الاستفزازيين». كذلك لم تغب عنه «شطارة» إعفاء جهات عربية أو تركية أو أوروبية أو إسلامية من الملامة، ليس لأيّ سبب آخر سوى تكريس جام غضبه لكتّاب ونشطاء فرنسيين تطوعوا للانخراط في الدفاع عن «أسطول الحرية».
وفي انتظار أن تُبحر سفن التضامن مع غزّة، أو تنجح دولة الاحتلال في عرقلة المبادرة بأسرها، أو تكيل لها حكومات الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا تهمة العداء للسامية؛ في الوسع الافتراض، مبدئياً على الأقلّ، أنّ حروب الاحتلال البصرية ضدّ الأسطول، وعلى شاكلة تلفيق قصف مجمّع الشفاء أو إنكار المقابر الجماعية، قد تبقى رهينة نموذجَيْ أمير وهنري ـ ليفي، على سبيل التمثيل لا الحصر، فثمة ما هو أدهى، أغلب الظنّ.