إذا كانت مشاهد الجنس والقبل مرفوضة في السينما العربية والأدب، وتثير جدلا كبيرا يصل حدّ ممارسة مقص الرقيب لمجزرته، قبل الإفراج عن العمل، بل يصل حد منعه أحيانا وإقصائه من المعارض، في ما يخص الأدب، فإن العنف عكس ذلك تماما، فهو مُرحّب به مهما بلغ درجات لا توصف من القسوة.
الإفراج عن «القُبلة الفنية» احتاج لكثير من الشجاعة، حتى بعد غزو القنوات الفضائية الأجنبية لتلفزيوناتنا، واقتحامها بيوتا محافظة. يمكن مثلا تقبل قُبلة أجنبية محضة، لكن قُبلة بين ممثل وممثلة عربيين، قد يدخلهما في متاهة «السين والجيم» التي لا تنتهي، وقد تدمّر الحياة الخاصة لأحدهما أو لكليهما.
الممثلة التي قد تظهر في مشهد ما عارية عليها أن تتحضّر نفسيا لتقبُّل أسوأ الأوصاف على الإطلاق لشخصها، ما جعل بعضهن يذهبن لمشاهد العنف واستعمال السلاح، لأنّها تزكّيهن لدى جمهور يقدّس السلاح ويعتبر العنف نوعا من البطولة.
يجب الاعتراف بأنّ الإعجاب العالمي بالمجنّدات الكرديات اللواتي أبرزهن الإعلام في حروب ضد «داعش» شكّل صدمة إيجابية للمتفرج الذي اعتبر المرأة «أداة جنس» على مدى طويل. لقد كنّ مبهرات فعلا وهنّ يدافعن عن أنفسهن وذويهن. والغريب أن صورهن بلباسهن العسكري شبيه بشكل ما بما رأيناه في نشرات الأخبار عن مجندات أمريكيات، وفي السينما الغربية، لكنّ شيئا ما لامسنا في العمق لأنهن مسلمات كسرن صورة نمطية سيطرت على أذهاننا منذ قرون. إنهن حتما لسن مثل النموذج الذي قدّمته ديمي مور في فيلم «جي آي جين» لريدلي سكوت (1997) الذي ظهرت فيه مور حليقة الرأس بالزي العسكري، وأدت دور ملازمة في الاستخبارات البحرية الأمريكية، وما تواجهه كامرأة في المؤسسة العسكرية. ولسن شبيهات بـ»نيكيتا» لوك بيسون (1990) الفيلم الصادم الذي ترك أثرا عميقا في ذاكرتي، والذي قامت فيه بدور البطولة آن باريلود عن امرأة أدينت بجريمة، جنّدتها الحكومة للاستفادة من خبرتها وتجاربها ومهاراتها. هذا الفيلم شكّل صدمة حقيقية لي، لأني في عمري آنذاك كنت أرى الإجرام ذكوريا، ولم أكن أتخيل امرأة بكل تلك الخبرات القتالية. طبعا نحن تعوّدنا ذلك الإنكار العجيب لمشاركة المرأة العربية في ثورات عدة على مدى التاريخ، كانت في بعضها قائدة عظيمة لجيوش بأكملها.
ما أريد أن أصل إليه هو أن الأفلام التي وثقت أو قدّمت المرأة المقاتلة، نذكرها لأنها قليلة، ومنها فيلم «فتيات الشمس» (2018) لإيفا حسين، عن كتيبة للنساء الكرديات، خضن حربا ضد المتطرفين لتحرير طفل صغير مخطوف. وبعده شاهدنا «أخوات السلاح» فيلم (2019) لكارولين فورست، روى قصة شابة كردية اسمها زارا انضمت إلى كتيبة من النساء الكرديات المجندات بعد نجاتها من أسر «داعش» رغبة منها للانتقام منهم بسبب مقتل والدها وأسر أخيها. في الشق الثاني من الفيلم نقرأ انضمام فرنسيتين للكتيبة إحداهما يهودية إسرائيلية والأخرى مسلمة جزائرية، كتلميح إلى تقارب المفاهيم للديانات السماوية في وضعها للقوانين الخاصة بالمرأة. وربما هناك رسالة أخرى خفية نحن في غنى عن ذكرها الآن.
مؤخرا لفت نظري فيلم «الأم» بطولة جينيفر لوبيز، الذي فاق في مشاهد العنف ما سبق وقدّمته في فيلم سابق «يكفي» (2002) الذي اكتشفت فيه حقيقة زوج عنيف حاربته بعد أن تدرّبت على فنون القتال، وأنهت حياته لتحافظ على حياتها وحياة ابنتها، وجه الشبه بين الفيلمين هو قتال الأم من أجل ابنتها، لكن في الفيلم الحالي الذي يبث على منصة نتفليكس تكون هذه الأم مقاتلة سابقة في الجيش الأمريكي، وتشهد على فساد بعض العناصر فيه، وحين تبلّغ عنهم تتعرّض للتهديد خاصة حين عرف هؤلاء أن لديها ابنة سلمتها لعائلة تكفلت بتبنيها. نستطيع القول إنّ عدد الجثث في هذا الفيلم بالعشرات، ولا يخلو مشهد تقريبا من عملية إطلاق نار. والمثير هنا هو شكل المرأة الجذّاب الحاملة للسلاح، وهي تقفز بخفّة من مكان إلى مكان، وتسوق سيارتها بسرعة مجنونة، وتتقن التصويب بدقة لافتة. هي تقاتل بدافع غريزة الأمومة، لكنّ هل تقديم المرأة العنيفة بهذه الصورة الجذّابة يخدم مجتمعات العالم المنجرفة نحو العنف بشكل غير مفهوم، بدءا بمجتمعاتنا التي تنتج الحروب بتكرار غريب، إلى المجتمعات المتطورة التي يحمل فيها المراهقون السلاح ويصفون أصدقاء وزملاء لهم دون تفسير، إلى المجتمعات المسالمة في الأدغال الافريقية، التي طالتها لوثة العالم المُصَنِّع للسلاح، فتخلّت عن فطرتها، وبدل أن تستعمل سلاحها من أجل أن تعيش أصبحت تستعمله من أجل الاعتداء على الآخر لأهداف لم تكن تخطر على بالها، حين كانت بدائية وجزءا من الطبيعة التي تنتمي إليها. ربما سمحت السلطة الذكورية في العصور الوسطى لنساء بحمل السلاح، لكن ما نشهده اليوم مختلف، بل إنه يثير التساؤل عن العلاقة بين الرّجل والمرأة، فحين قرأنا قصة جان دارك الفرنسية، كنا لا نزال أطفالا، وقصّتها تعود لبداية القرن الخامس عشر، وهي لم تكن شابة عادية، بل قائدة أيقظت أمة رغم أنها تنتمي لطبقة الفلاحين. هذا النوع من النساء كان موجودا في أوروبا، كما في الصين واليابان، والشمال الافريقي، ولعلّ بحثا صغيرا على غوغل سيعطينا أسماء لأكثر من قائدة جيش عبر العصور، لكن كما قلت سابقا ما تقدّمه السينما اليوم مختلف عن معطيات التاريخ سالف الذكر.
المرأة التي نعنيها اليوم هي امرأة تخاف من الرّجل، وهو لم يعد شريكا لها في الحياة بقدر ما أصبح العدو الذي يهدّد وجودها، وهي تقف أمام معادلة صعبة فإمّا أن يقتلها أو تقتله. لا تنفع في معطياتنا الجديدة، هذه قصص شهرزاد للتغلُّب على شهريار. إذ يبدو جليا أن شهريار في زمنه حتى إن كان مجرّد «خرافة» إلاّ أنه كان عاقلا، ويحسن الإصغاء، ويحترم فنّ القص، وإلا لما تجاذب أطراف الحديث مع شهرزاد ومنحها فرصة لتروي له قصصا متسلسلة كل ليلة حتى مطلع الصباح، على مدى ألف ليلة وليلة وهي ما يعادل تقريبا سنتين ونصف السنة!
في الأدب العربي صادفنا المرأة الجميلة، الفاتنة، وقرأنا الكثير من الغزل بشأنها، كما قرأنا في كتب التاريخ الكثير عن «الحريم» وسبي النساء، وقد اعتقدنا أن تلك حقبة ولّت ولن نشهد مثلها، إلى أن صدمنا واقع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين بوقائع تنافي كل توقعاتنا، فقد اندلعت حروب كثيرة كان من نتائجها عودة بيع الرقيق، والمتاجرة بالعبيد نساء ورجالا، والأغرب أن هذا الفخ وقع فيه كثيرون من أبناء الغرب المدلّل نساءً ورجالا.
هل السلاح يحلَّ المشكلة؟
ربما في ثورات كثيرة كانت لغة السلاح لغة حاسمة لتحرير الشعوب، لكن في حروب كثيرة كان السلاح مجرّد أداة للعنف، ألغت العقل الذي يُفترض أنه ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات، وأحدثت الكثير من الدمار، وأسالت الكثير من الدماء. بل إنّه غيّر طبيعة البشر، فأصبح يعتقد أن الحياة غير ممكنة دون أسلحة. في بلدان كثيرة شهدت حروبا كاسرة فقد الإنسان إنسانيته، بمعنى أنّه تحوّل لكائن غير عاقل، يتصرّف وفق غرائز البقاء، إلى أن يفقد اللغة ويتحوّل إلى حيوان متوحش. من هنا انبثقت حكمة فردريك نيتشه حين قال: «خذ حذرك وأنت تقاتل الوحوش أن تصبح واحدا منهم. ولا تحدق طويلا في الهاوية حتى لا تنظر الهاوية إليك فتخترقك وتنفذ إليك». خيبة أمل حقيقية أن تكتسحنا لغة السلاح، والعنف والخوف من الآخر، في عصرنا الذي تعدّدت فيه طرق التواصل الاجتماعي وفنون التعبير، حتى أصبحت المرأة التي كانت رمزا للحب والخصب وفنون الإغراء والغواية عاجزة عن استعمال أسلحتها السلمية فحملت السلاح القاتل الفتّاك!
فهل سنشهد زمنا أعنف من الذي نعيشه الآن؟ أم أن على الأرض ما يكفي من العقلاء لإنقاذ البشرية من الصورة القاتمة التي تنبّأت بها السينما؟
شاعرة وإعلامية من البحرين
“القدس العربي”