حينما زرت قبل أيام معرض الفنانة التشكيلية إسراء زيدان في دبي، لم أقدر أن لوحة لها بعنوان «حرب المخدات» تُدخل هذا الكم من الفرح على روحي، وهي لأربع نساء بدينات يتراشقن بالمخدات في منظر شبيه بما كنا نقوم به ونحن صغيرات في غُرفنا، كم السعادة وخفة الدم كان كبيرا يبث طاقة إيجابية ترسلها تلك اللوحة وأخواتها من اللوحات التي تدور حول ثيمة واحدة «نساء بدينات»، مرسومات بألوان فرحة من زهري إلى أحمر في وضعيات طريفة، سواء وهن يتأرجحن أو يرقصن أو يعزفن، في امتداد لطريقة الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو، الذي كان يسمي الشخصيات التي يرسمها «شعبي البدين»، حتى أصبح له أسلوب عالمي مشتق من اسمه «بوتيريسمو». وشهرته الحقيقية بدأت مع لوحة رسمها قبل ستين سنة، غير فيها بشكل ساخر لوحة الجيوكندا لليونادرو دا فينشي، فبدت فيها الحسناء التي حيرت ابتسامتها العالم بدينة ومنتفخة في شكل مضحك وسماها «موناليزا في الثانية عشرة» وإلى الآن لا تزال أهم معارض الفن التشكيلي تتهافت على اقتناء لوحات نساء بوتيرو البدينات.
لا أدري كيف قفزتْ أمام عيني وأنا أتجول في المعرض التشكيلي قصيدة محمود درويش «الجميلات هن الجميلات» وفيها أسبغ صفة على الجمال فيها على الضعيفات والقويات والأميرات والقريبات والبعيدات والفقيرات والوحيدات والطويلات والقصيرات والكبيرات والصغيرات، وحتى القاتلات، وكل ما قد خلق الله وما لم يخلق، وأهمل البدينات وكأنه يجردهن من نصيبهن في هذه النعمة الربانية، مع أنه قدّم للقصيدة حين ألقاها في جامعة بيت لحم قائلا، إنه سيحاول أن يرضي الجميع، ولكنه لم يُرضهن! وحدثت نفسي قائلة، إن درويش خالف ما جرى عليه الشعر العربي من احتفاء بالممتلئات من الجاهلية، إلى أن فَرضت الحضارة الغربية مقاييسها الحديثة بعارضات أزياء أشبه بهياكل عظمية، أو ناجيات من مجاعة كونية.
وتفضيل البدينة على النحيلة شائع في الشعر العربي يختصر الرأي السائد في ذلك قول عمر بن أبي ربيعة حين يصف حبيبته وصاحباتها: إذا ما دعت أترابها فاكتنفنها/ تمايلن أو مالت بهن المآكم، وإلى ذلك ذهب بشار بن برد أيضا حين قال: تَكَادُ إِذَا قَامَتْ لِشَيءٍ تُريدُهُ / تَمِيلُ بِهَا الأَرْدَافُ مَا لَمْ تَشَددِ. أما المتنبي الذي يذكر نحول جسمه في هذا البيت ذي المبالغة البليغة: كَفى بِجِسمي نُحولا أَنني رَجُلٌ / لَولا مُخاطَبَتي إِياكَ لَم تَرَني، فهو نفسه الذي يذكر تفضيله للبدوية السمينة غير المتزينة على الحضرية (المتمكيجة) حين قال: مَا أَوْجُهُ الْحَضَرِ الْمُسْتَحْسَنَاتِ بِهِ / كَأوْجُه البَدَوِياتِ الرعابِيبِ. والرعابيب النساء البيضاوات ممتلئات الأجسام كما يذكر شراح ديوانه. وأذكر حين كنت أنجز كتابي «شعر المرأة في ألف عام» عثرت على أبيات طريفة لشاعرة أموية تدعى «صعدة العامرية» نصحتها صديقاتها بأكل الطفْشِيل وهو نوع من المرق ليزيد وزنها فقالت: وَقَالُوا: كُلِي الطفْشِيلَ يَا «صَعْبَ» تَسْمَنِي/ وَشَحْمِي عَلَى الطفْشِيلِ شَحْمٌ مُمَانِحُ. فكانت أول وصفة للتسمين قبل ألف سنة، بل هناك وصفة أقدم منها ذكرتها عائشة أم المؤمنين في ما روته كتب الحديث «كَانَتْ أُمي تُعَالِجُنِي لِلسمْنَةِ، تُرِيدُ أَنْ تُدْخِلَنِي عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ، فَمَا اسْتَقَامَ لَهَا ذَلِكَ، حَتى أَكَلْتُ الْقِثاءَ بِالرطَبِ، فَسَمِنْتُ عَلَيْهِ كَأَحْسَنِ السمَنِ». وما زالت عند النساء الصحراويات، خاصة في موريتانيا عادة تسمين البنت قبل زواجها، فالرجال هناك يفضلن البدينات، حتى إن شاعرة منهن تدعى يُمـهْ بِنْت سِيدِي الهَادِي توفيت سنة 1882، اعترضت على طلب زوجها أن تزيد من وزنها فسجلت موقفها شعرا قائلة: أَيَا رَائِما هُزْلَ النسَا بِالتأَنبِ/ فَمَا أَمْرُنَا بِالشحْمِ غَيْرُ التتَعبِ / وَمَا كُل ذَاتِ الشحْمِ أُفْرِدَ حُبهَا / وَلَا كُل هَزْلَى خُصصَتْ بِالتجَنبِ. وللطرافة فقد احتفى السيوطي من قبلُ بالبدينات من خلال كتاب كامل عنوانه «اليواقيت الثمينة في صفات السمينة». ولو استقصى باحث ما جاء في وصف البدينات من شِعر لألف مجلدا كاملا.
أصبحت البدينات يعانين في مجتمعاتنا من التنمر والإقصاء، ومن دعوات لا تكل ولا تمل لإنقاص وزنهن، وليست هذه الدعوات جميعها خوفا عليهن من مضاعفات البدانة، فتجارة التنحيف تحتل المرتبة الثالثة عالميا بعد تجارتي السلاح والمخدرات، وكل ما أرغب فيه أن يتصالحن مع أجسادهن وينتبهن لصحتهن، إن كانت زيادة الوزن تشكل خطرا عليهن، دون أن يعشن أسيرات فخ الجسد، ولا حبيسات عقدة ذنب فقط لأنهم بدينات.
ولست هنا للتشجيع على البدانة بعد أن كثرت الدراسات عن ارتباطها بأمراض السكري والقلب وغيرها، وأصبح يطلق عليها صفة الوباء، خاصة بعد أن أصبح ثلث سكان العالم يتسمون بالبدانة، وتشكلَ تحالفٌ طويل عريض أين منه تحالف الدول الغربية في الحرب العالمية الثانية لمحاربة البدانة، وراءه جيش كبير من أنصار الريجيم ودور الأزياء العالمية ومؤسسات الإنتاج السينمائي وشركات أدوية التخسيس والمستشفيات الخاصة التي تقوم على عمليات قص المعدة وتضييقها وشفط الشحوم ونحت الجسوم، وما الله به وحده عليم، بل رأيي بسيط يقوم على أن من حق هؤلاء البدينات ـ وهن المعرضات الدائمات للتنمر والتمييز ـ أن يفخرن بجمالهن وخفة دمهن دون تنميط وقوالب جاهزة لمفهوم الجمال. وأوافق تماما نعومي وولف في كتابها «أسطورة الجمال: كيف تستخدم صور الجمال ضد النساء» ويقوم على فكرة (أنه مع زيادة القوة الاجتماعية للمرأة وبروزها ، فإن الضغط الذي تشعر به النساء به للالتزام بالمعايير الاجتماعية غير الواقعية للجمال الجسدي يتزايد أيضا بسبب التأثيرات التجارية على وسائل الإعلام. يؤدي هذا الضغط إلى سلوكيات غير صحية من قبل النساء وانشغال بالمظهر ويضر بقدرة المرأة على أن تكون فعالة في المجتمع ومقبولة من قبله). وقد لمست هذه الفكرة من خلال عملي الطويل في الإعلام المرئي، ورأيت إصرار القائمين على القنوات بفرض نموذج موحد للمذيعات أو مقدمات البرامج – وليس ذلك لدواعٍ صحية مطلقا ـ بل لمقاييس جمالية مستنسخة وقوالب شكلية معلبة في أذهانهم، وكم كان مؤلما ومخيبا أن تلفزيونا رسميا لدولة عربية أصدر قبل سنوات قرارا بمنع ثماني مذيعات من الظهور على الشاشة إلى حين إنقاص وزنهن، في تصرف لا يعني إلا أمرا واحدا أن أجسادكن ملك لي ويجب أن تصب في القالب الذي أفرضه. مع ملاحظة جوهرية وبعيدا عن أي تفكير نسوي أن هذا الفرض المتعسف لا يطبق على الرجال، فالإعلامي البدين والكبير والمتكرش مرحب به في الشاشات ما دام يمتلك شيئا يقدمه. وتعد الإعلامية المصرية فوزية سلامة، رحمها الله، الاستثناء الذي يؤكد القاعدة فلم يشملها هذا التنميط لأنها فرضت نفسها بثقافتها وازدواجية لغتها وتمرسها من قبلُ في الإعلام المكتوب رئيسةَ تحرير لصحف كبيرة. فكانت إضافة جميلة للبرنامج الذي شاركت في تقديمه. وأعتقد أن مقدمة البرامج أوبرا ونفري التي تعد الأعلى أجرا في العالم والأكثر مشاهدة لو كانت في مجتمعاتنا ما كان يسمح لها بالظهور التلفزيوني ولو كانت تملك ذكاء أنشتاين وبلاغة المتنبي وثقافة تشومسكي.
أصبحت البدينات يعانين في مجتمعاتنا من التنمر والإقصاء، ومن دعوات لا تكل ولا تمل لإنقاص وزنهن، وليست هذه الدعوات جميعها خوفا عليهن من مضاعفات البدانة، فتجارة التنحيف تحتل المرتبة الثالثة عالميا بعد تجارتي السلاح والمخدرات، وكل ما أرغب فيه أن يتصالحن مع أجسادهن وينتبهن لصحتهن، إن كانت زيادة الوزن تشكل خطرا عليهن، دون أن يعشن أسيرات فخ الجسد، ولا حبيسات عقدة ذنب فقط لأنهم بدينات.
خرجت من معرض إسراء زيدان، وقد علقت على لساني جملة «الجميلات هن البدينات» مشاكسة لمحمود درويش، وما وصلت بيتي حتى كانت على ذاكرة جوالي قصيدة مكتملة تنتصر للبدينات، ووجدتني بعد أيام بعدها وأنا على مسرح روشن الثقافي في معرض جدة أنشد في أمسية لي: «الجميلاتُ هن البديناتُ/ وجهٌ بغَمازتينِ يُرَفرِفُ فيه الفرَحْ/ بسمةُ الضوءِ مِن قمرٍ مُستديرٍ/ وبابٌ – إذا اليأسُ عَرْبَدَ بينَ الضلوعِ- انْفَتَحْ / البديناتُ: روحُ التفاؤلِ في جَسدِ المُستحيلْ/ إنهن الفراشاتُ في خِفةٍ يَتطايرْنَ/ غيرُ البديناتِ ظِل ثقيلْ!».
شاعرة وإعلامية من البحرين
“القدس العربي”