تتحدّث الأناجيل المسيحية المعتمدة عن ولادة طفل في ظروف صعبة وفقيرة (مغارة أو حظيرة) في مدينة بيت لحم في فلسطين، وعن كيف وضعته أمّه، مريم العذراء، القادمة من مدينة الناصرة، بعد ولادته في مذود (مكان توضع فيه اعلاف الحيوانات). تحوّل حدث هذه الولادة الشاقة مناسبة عالمية هائلة، كونها كانت منطلقا للديانة الأوسع انتشارا في العالم (قرابة 2,2 مليار شخص مسيحي)، ولبدء تقويم معتمد عالميا يؤرخ حصول 2023 عاما على تلك الولادة.
تحوّلت القصص الدينية المسيحية التي صوّرت سيرة ذاك الطفل إلى مكوّن أساسي من النسيج الفكري للبشرية. تتحدث إحدى تلك القصص عن قيام الحاكم الروماني، هيرودس، بذبح كل الأولاد الذكور الذين ولدوا في بيت لحم، لأن متنبئين مجوسا أعلنوا أن طفلا ولد في تلك المدينة سيصبح ملكا، كما تتمتع قصة صلب المسيح، ثم قيامته من القبر، بمكانة كبرى في تلك السيرة، وهو ما نجده في اعتبار الصليب رمزا أكبر للمسيحية.
يستعيد الفلسطينيون اليوم، وأمام مرأى العالم، سيرة ذلك الطفل المقدّس الوليد، ولكن ليس من حظيرة أو كهف بل من تحت “أكثر الحروب دمارا في القرن الحالي” (حسب تحقيق لصحيفة واشنطن بوست)، وفي المكان الذي صار أخطر مكان في العالم للأطفال: قطاع غزة (حسب منظمة يونيسيف التابعة للأمم المتحدة).
بهذا اليوم يكون قد مرّ 83 يوما على حرب إسرائيل على غزة، التي تهاجم قرابة 2,4 مليون نسمة في مساحة طولها 41 كم وعرضها 10 كم، بقنابل غير موجهة يصل بعضها إلى وزن 1000 كغ، مستهدفة البشر والبنى التحتية والمرافق العامة التي تغص بالنازحين، ولا تستثني في استهدافها المشافي والمدارس والمساجد والكنائس، حاصدة في مذبحة الأبرياء أكثر من 8000 طفل.
ليس هؤلاء الأطفال أرقاما. واحد منهم، عمر أبو رزق، نجا من القتل، لكن الأطباء اضطروا لبتر يده اليسرى، وبقي جرح كبير في ساقه اليمنى، بعد غارة قتلت 35 فردا من عائلته، بينهم أمه وأبوه وجدته. طفلة أخرى، والتي لم تحصل على اسم بعد، ولدت في زاوية ملجأ بإحدى المدارس التابعة للأمم المتحدة، وكانت أمها، كفاية أبو عاصر، البالغة 24 عاما، القادمة من شمالي غزة، اضطرت للركض والهرب من مكان لآخر، ووصلت إلى رفح بعد قصف على مخيم النصيرات شاهدت بعده الجثث وقد حالت أشلاء. أم أخرى، نهاد برقة، التي خرجت من تحت ركام الأنقاض لتجد طفلتها فاطمة وقد سحقت ساقاها، تتساءل ما ذنبها؟، وطفلة أخرى، أميرة البدوي، قتلت أمها وسبعة من إخوتها، وتعرضت لإصابات خطيرة في عمودها الفقري وليس من الواضح إذا كانت ستتمكن من المشي.
قبل أيام ذكّرت إسرائيل المسيحيين الفلسطينيين بوحشيتها حين قتلت ناهدة خليل أنطون وابنتها سمر اثناء سيرهما إلى دير للراهبات في مجمع رعية العائلة المقدسة في غزة، مما استدعى استنكارا شخصيا من بابا الفاتيكان، وقبلها قتلت 18 مسيحيا في هجوم على كنيسة برفيريوس، للروم الأرثوذكس، والتي تعتبر ثالث أقدم كنائس العالم، وقد نشرت وسائل الإعلام حينها لقطات مصورة في مجمع الكنيسة لطفل مصاب وهو يسحب من تحت الأنقاض.
يستقبل المسيحيون الفلسطينيون عيد الميلاد هذا العام بحزن، حيث ألغيت الاحتفالات كافة لجميع الطوائف، وأبقيت الصلوات الداعية لوقف الحرب، فيما ابتكرت الكنيسة الانجيلية اللوثرية فكرة مناسبة لربط المناسبة الدينية بالحرب القائمة في غزة عبر لف مجسم الطفل يسوع المسيح بالكوفية الفلسطينية وأغصان الزيتون وإحاطته بالردم والركام.
يلخّص ميلاد المسيح حدثا عالميا غيّر المنطقة والعالم، وما يجري في غزة الآن، يعيد التأكيد على أن فلسطين هي ملخّص للتاريخ العالمي، وهو تاريخ لا يمكن أن يتم اختزاله في دولة الاستعمار الاستيطاني، التي تهرس الشعوب والجغرافيا والأديان في مطحنة دموية لا أحد يعرف متى تتوقف.
“القدس العربي”