تقدم لنا ريبيكا روث غولد في كتابها «محو فلسطين: الخطاب الحر وحرية فلسطين» روايتها عن نشوء وتطور «معاداة الساميين» بأسلوب حكاية ضمن حكاية. فقد أقامت في بيت لحم، ولاحظت الظرف المهين لحياة الفلسطينيين. وهو ما تسميه «فقاعة الاحتلال» أو «الاعتداء على التاريخ». ثم تتابع الحالة المحزنة للقدس الشرقية التي يعيش فيها أكثر من 700 ألف فلسطيني في ظرف تعطيل دائم. وهو ما أكد لها أن الرواية الإسرائيلية للمحرقة استثمار لجريمة متكررة استهدفت عدة طوائف وأعراق في أرجاء متفرقة من العالم.
ثم تنتقل لفكرة معاداة السامية في بريطانيا، وترى أنها تعود لتعريف وضعه مركز المتابعة الدولية للعنصرية ورهاب الأجانب EUMC عام 2005. ثم تبناه التحالف الدولي لذكرى المحرقة IHRA عام 2016. وأتى مارك وايتزمان، ليساوي بين العداء للسامية مع نقد دولة إسرائيل. وأول من أيده حكومة تيريز ماي المحافظة عام 2016، حتى إنها وجهت بإلغاء عدة احتفاليات فلسطينية، تهدف لإدانة العنف الموجه ضد العرب، ومن بينها تظاهرة الجامعة المركزية في لانكشير عام 2017. وأعقب ذلك رسالة وزير التعليم غايفين وليامسون (من حكومة بوريس جونسون) إلى رؤساء الجامعات البريطانية، وتضمنت تهديدا مباشرا بمنع المعونات عن أي جامعة لا توالي دولة إسرائيل.
اغتيال فلسطين
وترى غولد، أن فلسطين تعرضت لثلاث عمليات إلغاء، الأولى تبديل الاسم والصفة. فقد تحولت القدس إلى أورشليم. الثانية تجزيء وتفكيك المكان بالجدار العازل. الثالثة الحد من حرية الكلام، يضاف لذلك إلغاء الزمن الفلسطيني، فكل فلسطيني يحتاج بالمعدل لخمس ساعات كي يتنقل بين القدس الشرقية والغربية. وخلالها يمر بنوعين من الحواجز: الأول حاجز أطراف machsom seger، ويعترض نقطة عبور بين الضفة وإسرائيل وقد بلغ عدده 11 حاجزا. الثاني نقطة تفتيش machsom keder، وأحيانا يسمى حواجز طائرة، لأنه يبدل مكانه دون سابق إنذار. وبلغ تعداده ما يساوي 4924 نقطة أمنية متنقلة.
وعد بلفور
وكما ترى غولد لم يتفق اليهود على دولة وطنية لهم. وقد شككت جريدة «صديق العمال» التي صدرت بالييدشية في لندن، بهذا المشروع، ثم اعتقل محررها الألماني غير اليهودي رودولف روكير، وأبعد قسرا إلى هولندا، ووضع ذلك حدا للحركة المعادية للصهيونية في بريطانيا، وجعل حركة اليسار اليهودي صعبة وغير مضمونة، ثم بدأت تتشكل فكرة تفريغ الأرض من العنصر اليهودي للتخلص من الصداع الذي يسببه. وكانت هذه بذرة التفكير بدولة إسرائيل. ومهد لها عام 1917 وعد بلفور، ثم ورثه التحالف الدولي. وإذا وضع بلفور خطابه بسبع وستين كلمة، اقتصر تعريف التحالف على ثماني وثلاثين كلمة، وإذا أراد بلفور خدمة استراتيجية الحرب البريطانية، فقد كان التحالف يغطي على المشروع الإمبريالي.
إبرام ليون والقضية اليهودية
ويبدو لغولد أن أحدا لم يقف مع اليهود مثل الماركسيين، وأبرزهم حنة أرندت وفالتير بنيامين وتروتسكي، وأخيرا البلجيكي إبرام ليون، الذي بنى رؤيته على أساس أن «نشاط اليهود الاقتصادي صنع لهم هوية ثابتة رشحتهم لتكوين طبقة شعبية ماركنتيلية» لكن «الاقتصاد الرأسمالي هو المسؤول عن سقوطهم وصعود معاداة السامية». وفي عام 1940 أسس في بلجيكا حزبا تروتسكيا، وأصدر جريدة «طريق لينين». لكنها توقفت بعد اعتقال النازيين له في بلجيكا. وفي السجن تابع الكتابة، وظهر كتابه بعد موته بعنوان «القضية اليهودية» بتحرير صديقه أرنست ماندل. ولم يسمع أحد بهذا الكتاب إلا بعد حرب الأيام الستة وهزيمة العرب وصعود اليسار في إسرائيل.
يربط ليون في الكتاب بين الرأسمالية واليهود، والتهديد الذي يشكلونه على الطبقة العاملة والفلاحين. لكنه يبرئ اليهود ويدين الرأسمالية. فالرأسمالية حررت اليهود من الغيتو، لكن استغلتهم لتوسيع نشاطها التجاري. غير أن الدين وضع اليهود خارج الطبقات. وما يدعو للدهشة أنه لم يناقش المسألة الصهيونية، ولم يذكر مشروع دولة إسرائيل، وعوضا عن ذلك رأى أن الشرط الاجتماعي لليهود هو الذي حافظ على الدين عبر تاريخه بعكس الإسلام والمسيحية، فقد وحدهما الدين وليس الشرط الاجتماعي. ومن المعروف أن العداء للسامية سبق ظهور الأديان، فقد قال عنهم سينيكا إنهم عرق إجرامي، وأضاف المسرحي الساخر جوفينال: إنهم وجدوا لترويج الشر في العالم. وقال المتكلم الروماني كوينتاليان: هم لعنة على البشرية. وفي المسيحية القروسطية ذاع العداء لليهود، وكانت كل أشكال نشاطهم الاقتصادي في قفص الاتهام، باستثناء الإنتاج الزراعي.
ثم تتوقف غولد عند استثمار الديمقراطية الغربية لملفات أصبحت من التاريخ. وتذكر أن جامعة بريستول طردت عالم الاجتماع دافيد ميلر عام 2021 لأنه انتقد دولة إسرائيل، لكنها برأت ستيفن جير من شكوى تتهمه بكراهية المسلمين. وتنقل عن مارك لامونت هيل وميتشيل بليتنيك أن مخاطر الكلام عن فلسطين في الغرب أكبر من أي موضوع آخر، حتى أن جامعة إلينويز الأمريكية طردت عام 2013 ستيفن سالاتا أثناء المذبحة الجوية التي كانت ترتكبها إسرائيل في غزة. وتبعه طرد إميلي وايدر من أسوشيتد بريس أثناء غزوة 2021 على غزة أيضا. والسبب هو إبداء رأي يعادي سياسة إسرائيل. ولم توفر آلة الرقابة مفكرة معروفة مثل جوديت بتلر، وذلك يثبت أن الحياد وحرية التعبير مسألة تتبع في الغرب جوهريا مصالحه الآنية (تسميها غولد «احتياجاته»). وتسميها لاحقا «اللعبة البيروقراطية». وربما اقتبست هذا التعبير عن الهندي أخيل بيلغرامي الذي رأى أن التوازن بين الحرية والواجب «تهميش لحق الأقليات بالدفاع عن وجودها».
خاتمة وملاحظات
وإذا كانت خاتمة كتاب غولد مفاجأة تعلن فيها أنها مولودة لعائلة يهودية، ولذلك يصعب إدراجها في قائمة المعادين لليهود، لا تتردد ولو لحظة لتعزو حياتها الأكاديمية وتطوير وعيها المعرفي إلى ظروف واقعية تعايشت معها في ظل تنافس الدول الكبيرة على مزيد من الأرض، ومع ذلك فاتها أن تضيف لهذه المفاجأة أجوبة واضحة على أسئلة لا تزال في الذهن.
أولا كيف تنظر للتفاوت في الفرص بين يهود الغرب والشرق داخل وخارج إسرائيل.
ثانيا.. لماذا لم تحاول إلغاء فكرة الاقتصاد الربوي عن اليهود، فأول مصرف في العالم لم ينشأ بيد يهودية، ولليهود فضل في تنظيم الإنفاق وسياسة الاقتراض والادخار فقط.
ثالثا.. لم تذكر أن المحرقة لم تكن انتقائية، وخاصة باليهود، بل شاركهم في مصيرهم الأسود اليسار والغجر. وتساوى عدد ضحايا المحرقة الروس مع عدد اليهود، فقد بلغ كل منهما 6 ملايين ضحية، يضاف لهم 3 ملايين روسي من أسرى الحرب ومليونا بولوني غير يهودي.
رابعا.. كنت أتمنى الإشارة للخلاف التاريخي بين عرب الحجاز واليهود. وهو دون أي شك بلا خلفيات لا سامية، ويمكن أن نقول العكس. إنه شكل مبكر من الإسلاموفوبيا، وخوف القبائل اليهودية على نفسها من تحالف قريش مع الأوس والخزرج. بتعبير آخر هو خلاف قبائلي على النفوذ. ويرى بيتر فين من جامعة ماريلاند أن العرب لم يعرفوا اللاسامية إلا خلال الحملات الصليبية، وبعد توزيع تركة العثمانيين على الحلف الغربي.
صدر الكتاب عن دار فيرسو في نيويورك ولندن عام 2023 / وهو من 170 ص.
كاتب سوري
“القدس العربي”