عايشت الدول العربية عاملين أساسيين أديا إلى مسارات غير متوازنة، بل ومشوهة في رحلتها تجاه اعتناق الحداثة في الجانب السياسي، وكانت فكرة الدولة الحديثة قد فُرضت على الدول العربية مع أفول عصر الاستعمار وانهيار الامبراطورية العثمانية، وكانت محطة الانتداب التي شملت الدول التي كانت خاضعة للحكم العثماني بصورة مباشرة، تجلياً واضحاً لرغبة الغرب في مأسسة المناطق العربية، في صورة دول يمكنها أن تندمج مع المنظومة الدولية، وأن تقدم خدماتها لما يعرف بالمجتمع الدولي.
العامل الأول، كان ظهور النفط في منطقة الخليج العربي، بالوفرة التي نقلتها من منطقة هامشية تسهم في السيطرة على طرق التجارة العالمية، إلى منطقة مركزية ذات أهمية لا تعتبر هامشاً لطريق، ولكن بؤرة يجب تأمين الطرق منها وإليها، وكان الحكم العسكري، هو العامل الثاني في دول لم تكن جرعة التنوير والليبرالية، التي عايشتها كافية من أجل تأسيس منظومة دولة حديثة لمدى تعمق التراث السياسي والاجتماعي، الذي أرسته الحقبة العثمانية الممتدة.
و»أصبح العرب عربين»، هكذا يقول المثل المصري، عندما يتطلب الأمر تسوية ما، عرب النفط وعرب العسكر، ورغم أن الطرفين احتفظا شكلياً بعلاقة طيبة، إلا أن الخليج الذي كان هامشاً تاريخياً، بقي في ذهنية دول ما يسمى بالمركز العربي، الكثيفة السكان والموارد الأخرى باستثناء النفط، مثل مصر وسوريا، عقدةً لقدرته على تحقيق وعوده الاجتماعية لمواطنيه، نتيجة الوفرة المالية، وتنامت مدرستان فكريتان متناقضتان، لا تحملان مشاعر طيبة تجاه بعضهما في الخليج، وبقية الدول العربية.
الحقيقة التي يجب أن تحضر أن العرب للعرب، وأن الأمن القومي متداخل، والتعاون يجب أن يقوم على أرضية ندية حقيقية
أين أنتم؟ لماذا تتركوننا؟ بهذين السؤالين، مضى نقيب المحامين المصريين السابق سامح عاشور يطرح المشكلة بصورة انفعالية، بل وصلت حالة التجني إلى قوله، إن الدول الخليجية تؤلمها فكرة أن تكون مصر كبيرة، زاعماً أن كبر وقوة مصر تحميهم، وأن ثمة إحساسا لدى الدول الخليجية بأن التميز المصري ليس مطلوباً أن يتقدم. يتناسى النقيب السابق، الذي يستخرجه الإعلام من خزانة أدواته، من أجل تحميله رسالة يمكن إنكار المسؤولية عنها لاحقاً، أن مصر كانت دولة متقدمة بينما دول الخليج تحاول أن تضع أقدامها على بداية الطريق، بمعنى أن المشكلة تكمن حقيقةً في تراجع مصر، وليس في تقدم الخليج، وفي الشراهة التي تنامت في القاهرة تجاه المال الخليجي منذ هزيمة يونيو 1967، وتعهد الدول الخليجية بتقديم دعم متفاوت حسب قدراتها للموازنة المصرية، وصولاً إلى محطة حرب الخليج 1990 التي شهدت تحول الدعم الخليجي إلى الحل السحري الذي تنتظره مصر في كل وقت. في حرب الخليج عادت وتيرة «بترول العرب لكل العرب» للعودة من جديد، ووظفت في الخطاب الضمني للأزمة، ولكن القصة تعود بجذورها للستينيات، لدرجة ترويجها بعد هزيمة يونيو، في أغنية لمطربة شبه مجهولة في الإعلام السوري، وصلت إلى التهديد «يا بناخد حقنا الكامل.. يا بنشعله لهب»، تعني البترول. لم يتحدث أحد مع الخليجيين حول معادلة تقوم على أرضية منطقية وعقلانية لاستثمار عوائد البترول، وكان مطلوباً وبصورة دائمة، أن يكون التدفق للمساعدات المالية غير مشروط، ومن غير معالم واضحة، تحت بند الأخوة، وهي التي اشتقت منها كلمة الخاوة بين القبائل البدوية، التي تعني في جوهرها الإتاوة المفروضة من أجل الحماية، وكانت دول الخليج تدرك بصورة أو بأخرى، أنها تدفع الحماية لنظمها الخاصة، ولخصوصيتها السياسية من الدول العربية الأخرى، أي أن التهديد كان متأتياً من الدول ذاتها، التي تطلب الدعم من أجل توفير الحماية، أما الحماية الوجودية، في ظل توفر النفط وتصاعد قيمته الاستراتيجية، فكانت مسألة خارج قدرات الدول العربية الأخرى من الأساس.
يقارن عاشور بين الاتفاقيات السعودية ـ الأمريكية، التي قاربت النصف تريليون دولار في فترة رئاسة دونالد ترامب، وتعنت الدول العربية عن تقديم المساعدات غير المشروطة لمصر في هذه المرحلة، والتقدم تجاه وضع حل متكامل للمشروع الذي أخذ يظهر عدم جدواه في مصر، ومبالغته الزائدة، والإشكالية أن مصر لم تضع اقتصادات صناعية وزراعية، يمكن أن تستثمر هيكلها وثروتها السكانية، بوصفها النموذج الذي تسعى لتحقيقه، ولكنها لجأت إلى استنساخ النموذج الخليجي في البنية التحتية المرتبطة بالحركة التجارية، بحكم وفرة الدخل النفطي والموقع الذي يطرح نفسه كعقدة ترانزيت رئيسية في العالم. استفاقت بعض الدول العربية من التعويل على الدعم الخليجي غير المشروط في المراحل الزمنية السابقة، فالمعادلات الجيوسياسية، التي كانت سائدة تغيرت، وجيل جديد في الخليج أخذ يقارب الأمور من زوايا أخرى، والنفط الذي كان عاملاً حاسماً في تشكيل جانب كبير من الهوية العربية، ذات النزعة الاستهلاكية، التي فرضت إيقاعها ليس في الدول النفطية وحدها، بل من خلال إعادة تصدير أجيال من العاملين في الخليج مرة أخرى إلى مصر والأردن وسوريا، بثقافة غير متناسبة مع البنى الاجتماعية والسياسية في بلدانها، فكان الغزو الوهابي تارةً، وكانت ثقافة المطاعم والمآدب، وغيرها من الجوانب التي يمكن أن تجد طريقها من منطلق الوفرة النفطية التي حدثت في دول الخليج. العقلية العسكرية المملوكية التي وجدت نفسها في الخلفية الذهنية لمنظومة السلطة في كثير من الدول العربية، كانت ترى حقاً أصيلاً في الثروات داخل إقليمها الخاص، وفي أي إقليم آخر تستطيع أن تفرض نفوذها تجاهه، وفي هذه النقطة فشلت الحداثة في الدول العربية وسيطرت عقلية العصر العثماني بشرعيته غير المقنعة واستحواذه الطفيلي على ثروات المجتمعات الواقعة تحت حكمه على الفكر السياسي والاجتماعي في زوايا معتمة منه. قبل سنوات قدم الأنثروبولوجي صامولي شيلكه المتخصص في التحولات الاجتماعية في مصر، كتاباً تحت عنوان «حتى ينتهي النفط» حول هجرة العمالة المصرية إلى دول الخليج، ويوحي كتابه بسؤال كبير حول مستقبل المنطقة في مرحلة ما بعد النفط، وهو السؤال الذي يبدو مقلقاً لدول الخليج نفسها، يظهر مرعباً بالنسبة لدول أخرى وجدت في النفط الخليجي المخرج المتوفر للعديد من الأزمات. الخليج لا يرى المساعدات المالية تنصرف لبناء تنمية حقيقية يمكن أن تؤسس لاقتصادات يمكن أن تستغني عن المال النفطي لتوافر عوامل إنتاج أخرى مثل الموارد البشرية والمياه والأصول الاجتماعية الثقافية والمعرفية، ولكنها تتوجه لصناعة فئات اجتماعية صاعدة تريد أن تعيش النمط الخليجي بالمال الخليجي، وتولد داخل مجتمعاتها مشاكل جديدة ليتم استدعاء الخليج ليقدم من أمواله حلولاً لمشكلات مستجدة، وتذهب الأموال للفئات الجديدة، من غير أن تقدم حلولاً للجموع العربية التي لم تشعر بالمساعدات الخليجية ولم تتلمسها في تحسين حياتها.
بترول العرب ليس للعرب، هذه مسألة عاطفية لا تقوم على أي أساس حقيقي، ويمكن الرد عليها بالتساؤل حول الدور الذي لعبته الدول العربية في المشرق تجاه الجزيرة العربية، ومنطقة الخليج قبل ظهور النفط، وهو دور متواضع كان ينحصر في تبرعات شعبية، أو سلطوية استعراضية لدعم عملية الحج بوصفها مركزاً لأنشطة المنطقة، ولكن الحقيقة التي يجب أن تحضر أن العرب للعرب، وأن الأمن القومي متداخل، والتعاون يجب أن يقوم على أرضية ندية حقيقية، وأن معادلة المليونير الخليجي والجنرال العربي، يجب أن تفسح مكانها لعلاقة قائمة بين مفكرين مؤهلين معرفياً ونفسياً، من أجل بناء فضاء تعاوني يوزع ثروات المنطقة بطريقة عادلة ومفيدة للكل، بحيث يصبح شباب العرب لكل العرب مسوغاً موضوعياً لفكرة نفط العرب لكل العرب، وأن تصبح أرض العرب الزراعية لكل العرب، وأن تصبح مؤسسات الفكر لكل العرب، أما أن يبقى التمويل مرتهناً بتقديم حلول لمشكلات طارئة فهذه ليست بالمسألة العادلة أو القابلة للاستمرار.
كاتب أردني
“القدس العربي”