أُصوِّتُ بـ«لا» – الإعلان الدستوري المؤقت والنضال الديمقراطي في سوريا

كرم نشار

في حال كان الإعلان الدستوري المؤقت الذي صدر في سوريا يوم أمس نُسخة أولى أو تمهيدية عن دستور دائم، يتم عرضه على الشعب السوري للاستفتاء عليه، فأنا كمواطن سوري، لا كخبير قانوني أو دستوري، كنتُ سأُدلي بصوت معارض له لسببين رئيسين: الأول هو غياب آليات المراقبة والموازنة بين السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، والثاني هو غياب الإطار الجامع والمُنصف بحق، على صعيد هوية الدولة ومرجعيّتها وبُنيتها الأساسية.

وقد يستوقفُني أحدهم هنا ليقول إن افتراض أي نوع من التشابه أو «التمهيد» بين الإعلان المؤقت الحالي والدستور الدائم المُزمع إنجازه بعد خمس سنوات، هو نوع من التوجس الزائد أو السلبية المُفرطة، وكنت سأجاوبُ بأن التوجس الزائد مُبرَّرٌ في هذا المكان، بالنظر إلى طبيعة النظام السياسي الذي يرسمه الإعلان، والذِي سَتنبثق عنه لجنة كتابة الدستور الدائم. وبكل الأحوال، فإن التعبير عن الرأي النقدي لا يكتسب أهميته اليوم من القدرة على تغيير ما هو واقع في أروقة السلطة في دمشق، بل من الإسهام في بلورة مواقف مشتركة على صعيد الشأن العام، ووضع عناوين وأهداف جامعة للتيار الديمقراطي التقدمي في سوريا.

لقد تم مسخ مفهوم فصل السلطات في الإعلان الدستوري المؤقت بشكل يجعلها عاجزة تماماً عن مراقبة وموازنة بعضها بعضاً، لصالح السلطة التنفيذية وعلى رأسها رئيس الجمهورية، الذي يبدو في المرحلة الانتقالية أشبه بملك مُتوّج منه برئيس مُساءَل. فهو يعين ثلث أعضاء مجلس الشعب، وهو يعين اللجنة التي ستقوم باختيار الهيئات الفرعية الناخبة للثُلثَين الباقيين، وهو من يعين أعضاء المحكمة الدستورية العليا دون العودة إلى مجلس الشعب أو ضرورة تأمين تصويت بالثقة على مُرشحيه. ومن الواضح أن لا المحكمة الدستورية العليا ولا مجلس الشعب يملكان سلطة محاسبة أو مُساءلة رئيس الجمهورية أو أفراد السلطة التنفيذية، وحتى على الصعيد الرمزي ينص الإعلان على تأدية أعضاء مجلس الشعب القسم أمام رئيس الجمهورية، لا رئيس مجلس النواب أو شخصية أخرى، بما يُعزز فكرة التبعية وكون رئيس الجمهورية هو رأس السلطات كلها.

وقد يقول قائل هنا إن الظرف التاريخي يُبرّر صيغة الحكم هذه بالنظر إلى عمق الانقلاب الحاصل على صعيد إعادة بناء المؤسسات، وإنه من المتعذر اليوم تنظيم انتخابات تشريعية حقيقية في ظل الأوضاع الاقتصادية والديمغرافية الحالية، وقد يقول آخر إننا نحتاج إلى سلطة تنفيذية قادرة على الحركة بسرعة على صعيد إعادة الإعمار، بدلاً من تعثر كل تفصيل في أروقة التفاوض السياسي، وأنه بالنظر إلى براغماتية الشرع بالمقارنة مع غيره في هيئة تحرير الشام، وبالنظر إلى الاستقطاب الهائل على صعيد المجتمع الأوسع، فمن الأفضل أن يمتلك الشرع هذا الدَور «المَلكي» من وجهة نظر ليبرالية مصلحية. هذه وجهات نظر قد تخطئ أو تصيب في بعض الجزئيات، لكنها لا تنفي أننا ندخل إلى مرحلة انتقالية لمدة خمس سنوات سيكون فيها للقائد الفاتح سلطات وقدرات «فوق العادة»، وأن هذا إن كان واقعاً قبل الإعلان الدستوري، فإنه بات قانوناً وسابقة دستورية بعده.

أما المشكلة الثانية فترتبط بغياب الإطار الجامع والمُنصف على صعيد هوية الدولة ومرجعيّتها وبُنيتها الأساسية. «الأمة السورية» القائمة على المُواطنة والنابذة للانقسام والاستقواء بالخارج، (الذي تم تجريمه في نص الإعلان)، لا يمكن أن تتشكل حقاً إن لم يكن جسمها السياسي الدستوري، أي الدولة، شاملاً وجامعاً وعادلاً بحق.

أنا المواطن السوري العربي المحتدّ أطمحُ لأن يكون اسم الدولة «الجمهورية السورية»، بما يُشعر جميع المواطنين السوريين، بغض النظر عن أعراقهم ولغاتهم الأم، بالانتماء إلى هذا الوطن، ولا أعتقد أن هذا سينقُص من عروبتي أو عروبة سوريا المضمونة بحكم عروبة غالبية سكانها. أنا المواطن السوري المسلم أطمح لأن أكون قادراً على انتخاب رئيس جمهورية غير مسلم في سوريا، في حال توفرت لديه الكفاءة والنزاهة والبرنامج السياسي المتوافق مع تصوراتي ومبادئي السياسية العامة، ولا أعتقد أن هذا يُشكّل خطورة على الإسلام والمسلمين في حال تحقق حياد الدولة وديمقراطيتها. أما الفقه الإسلامي فمن الأفضل أن يكون مصدراً وليس المصدر الرئيسي للتشريع في سوريا، على اعتبار أن الأرضية المشتركة الجامعة في بلدنا هي مفاهيم الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية، والرغبة الجامعة في الاستقرار والرخاء وليس الإيمان الديني أو الالتزام الإسلامي.

أعلم جيداً أن هذه القناعات قد لا تعبر عن توجُّه غالبية الناس في سوريا اليوم، وأن الديمقراطية هي حكم الغالبية، هذا على الرغم من أن الإعلان الدستوري لم يُشِر إلى كلمة ديمقراطية على الإطلاق! أُدرك أيضاً أن الصيغة الحالية للإعلان الدستوري تنحو نحو دساتير سورية سابقة على صعيد الهوية ودين رئيس الجمهورية ودور الفقه الإسلامي، وأنها تُشكل حلاً وسطاً بالنظر إلى مروحة الآراء في المجتمع السوري من جهة، وبالنسبة إلى الخلفية السلفية لهيئة تحرير الشام وغالبية الفصائل العسكرية من جهة أخرى. كل هذا صحيح. ولكن يبقى صحيحاً أيضاً أن الكيان السوري مضعضع اليوم أكثر من أي يوم مضى، وأنه في الأصل هشٌّ ويحمل في تركيبه الكثير من القنابل الموقوتة المرتبطة بتنوع هويات مواطنيه وغياب الثقة والتآلف والاعتراف الحقيقي المتبادل فيما بينهم، وأن تجاوز هذه الهشاشة عبر الغلبة أو التجاهل أو مزيج منهما لن يؤدي إلا إلى تعزيزها على المدى البعيد. سوريا اليوم تحتاج إلى جميع مواطنيها ومُواطناتها بلا استثناء، على اختلاف انتماءاتهم الفرعية الموروثة وقناعاتهم الفكرية المكتسبة، وقدرتها على جذبهم ترتبط بادئ ذي بدء بالإطار الدستوري والقانوني الذي يضعهم جميعاً على قدم المساواة حقاً، ويقنعهم حقاً أن سوريا لهم كما هي لغيرهم.

بين خطر حكم الفرد وهيمنة الهوية الثقافية الأُحادية، لا تبدو التحديات أمام الديمقراطيين التقدميين في سوريا مُختلفة كثيراً عما كانت في الحقبات الماضية على الصعيد النظري. أما على صعيد الممارسة، فيبقى ما هو شديد الأهمية، وقد يؤسس حقاً لافتراق نهائي عن الحقبة الأسدية، هو قُدرتنا على التعبير والتنظيم داخل سوريا بشكل سلمي وعلني نقدي و/أو مُعارض دون قمع أو ترهيب سلطوي أو مجتمعي. الإعلان الدستوري يتعهد بصون الحرُيات وبتقديم قانون جديد للأحزاب، يبقى أن نرى كيف سيتم هذا على أرض الواقع.

الجمهورية نت

Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

أبريل 2025
س د ن ث أرب خ ج
 1234
567891011
12131415161718
19202122232425
2627282930  

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist