هل ثمة حاجة، أو حتى ضرورة، لإعادة قراءة الكاتب المسرحي الكبير آرثر ميللر (1915-2005) بعد أكثر من قرن على ولادته، والتركيز على تلمّس أعماله في ضوء المناهج النقدية المتجددة (والبعض يتابع: المتفجرة المتبدلة المتسارعة!)؛ ثمّ، وهو بُعد لا يقلّ أهمية وحساسية، عدم الاكتفاء بما تضخّه المسرحيات ذاتها من أفكار، بل الذهاب أعمق نحو حصيلة مواقفه السياسية المختلفة؟ الـ»نعم» هي جواب ستيفن ماريو ودافيد بالمر، اللذين حرّرا كتاب «آرثر ميللر للقرن الحادي والعشرين: نظرات معاصرة حول كتاباته وأفكاره»، وصدر مؤخراً بالإنكليزية ضمن منشورات بالغريف/ مكميلان، في 321 صفحة.
ولعلّ الفرضية الأبرز في الكتاب هي أنّ ميللر كان ابن القرن العشرين، فلم تنغمس أعماله المسرحية وأفكاره ومواقفه في تحوّلات ذلك القرن، هو الذي عاش 90 حولاً، فحسب؛ بل كان، أيضاً، شديد التماسّ مع تلك العقود التي استسهل الكثيرون توصيفها تحت تسمية «القرن الأمريكي». وليس طريفاً فقط، بل حمّال أدلّة كثيرة، ما يقوله المحرران في تصدير الكتاب: هذا كاتب منتم منحاز ناقد، ولد في ذروة الحرب العالمية الأولى، ورحل في ذروة «الحرب على الإرهاب» وتبلورت آراؤه وكتاباته في خضمّ المحن السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تعاقبت تباعاً، وتدافعت وتزاحمت، حتى بات مشروعاً قبول التوصيف الآخر: «القرن المزمجر»، ميدان الركود الكبير والحرب العالمية الثانية والمكارثية وصيد السَحَرة والصراع العربي – الإسرائيلي وثورات الستينيات الثقافية وحرب فييتنام والريغانية وانطواء صفحة الاتحاد السوفييتي والكتلة الشيوعية…
ميللر، في أوّل المسعى مثل نهاية المطاف، ليس الكاتب المسرحي الكبير والرائد والمجدد، الجسور في الأشكال والمضامين، فحسب؛ بل هو واحد من أعظم ضمائر أمريكا في زمنه
وإذْ يجهد 17 من المساهمات والمساهمين في اقتفاء حضور ميللر على خارطة القرن الراهن، والعقد الثالث منه على وجه التحديد، فإنّ من النادر أن يغادر أيّ منهم تلك المساحات المميزة التي انفرد الرجل بشغلها، على رحابة ما أتاحته من فرص لاحتضان سواه. هذا، في أوّل المسعى مثل نهاية المطاف، ليس الكاتب المسرحي الكبير والرائد والمجدد، الجسور في الأشكال والمضامين، فحسب؛ بل هو واحد من أعظم ضمائر أمريكا في زمنه، أو أزمانه كما يجوز القول. وهو، في يقين شخصي تراه هذه السطور الجانب الأهمّ أغلب الظنّ، أحد كبار الذين خضعوا للتنكيل والترهيب والتأثيم من جانب المؤسسات ذاتها التي تفاخر بصناعة «الحلم الأمريكي» الشهير وإدامته واستدامته؛ مثلما تتباهى بقِيَم «العائلة الأمريكية»، ذاتها التي اخترق ميللر حصونها المغلقة أو المنيعة، فعرّى الكثير من الزيف وانتهك الأكثر من الأقنعة وكشف ما تخفيه النفوس من تشوّهات مَرَضية عنصرية وانعزالية.
وفي عام 1947 انضمّ ميللر إلى لائحة الـ 320 من العاملين في مختلف اختصاصات «صناعة التسلية»، حسب التعبير الذي يفرده القاموس الأمريكي لأعمال المسرح والسينما والغناء والأوبرا وسواها من الفنون، ممّن مُنعوا من العمل في هذه الصناعة بقرار من «لجنة النشاطات المعادية لأمريكا». وبالطبع، كانت أعمال هذه اللجنة قد دشّنت فجر الـ»مكارثية» بوصفها أسوأ استبداد ثقافي وفكري عرفته أمريكا علي امتداد تاريخها، أو… حتى تثبت السنوات القليلة القادمة أنّ الـ»نيو- مكارثية» التي بشّر ويبشّر بها المحافظون الجدد، أبناء القرن الراهن، لن تكون أقلّ شراسة! وكانت اللجنة قد بدأت عهدها باستجواب ما عُرف بعدئذ باسم «عَشْرة هوليوود» ممّن رفضوا التعاون مع اللجنة، فصدرت بحقّهم أحكام بالسجن. وإلى جانب ميللر توفّرت أسماء عدد كبير من خيرة كتّاب وفنّاني الولايات المتحدة آنذاك: ريشارد رايت، بول روبسون، ليليان هيلمان، داشيل هاميت، كليفورد أوديتس، لويس أنترمير، وسواهم.
وذنب هؤلاء كان مزدوجاً: أنهم ينتمون بهذا الشكل أو ذاك إلى تيّارات اليسار، ويُشتبه تالياً بانتمائهم إلى الحزب الشيوعي؛ وأنهم رفضوا ممارسة الدسيسة على زملائهم والإدلاء بمعلومات عنهم إلى اللجنة. وفي كتاب السيرة الذاتية الذي أصدره سنة 1987 بعنوان «على مرّ الأيام: حياة»، يروي ميللر تفاصيل مثيرة عن تلك الحقبة، لعلّ أشدّها تأثيراً في النفس ليس صموده هو أمام اللجنة، بل انهيار صديقه المخرج المسرحي والسينمائي الكبير إيليا كازان. وكان كازان قد أطلق أوّل أمجاد ميللر حين أخرج «كلّهم أبنائي» في العام ذاته 1947 وأتبعها بإخراج «موت بائع جوّال»، ثمّ مسرحية تنيسي وليامز الأشهر «عربة اسمها اللذة».
والحال أنّ لجنة الكونغرس تلك شُكّلت للتحقيق في النشاطات المعادية لأمريكا في صفّ اليسار وصفّ اليمين على حدّ سواء، ولكنها انتهت إلى استثناء الصفّ الأخير تماماً ونهائياً واقتصرت محاكم التفتيش على أهل اليسار وحدهم. كان مطلوباً من اللجنة أن تحقق مع المنظمة العنصرية الشهيرة «كو كلوكس كلان»، لكنّ رئيس اللجنة نفسه، مارتن دايز، كان صديقاً مقرّباً من المنظمة ومتعاطفاً معها وخطيباً في اجتماعاتها! وهذا ما أكدته زعامة المنظمة حين أبرقت إلى اللجنة مهنّئة: «كلّ أمريكي أصيل، وهذا يشمل أعضاء منظمتنا، يقف وراءكم ويساند لجنتكم في جهودها لإعادة البلاد إلى صاحبها الوحيد: الأمريكي الطيّب، الشريف، المحبّ للحرّية، والتقيّ الذي يخشى الله»!
لكنّ الوقائع اللاحقة أثبتت أنّ أمثال ميللر ينتمون إلى صفّ الأمريكي «العاقّ» وليس ذاك «الطيّب»؛ خلال أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، أوّلاً، ولكن في سنوات العقود الأولى من القرن الراهن أيضاً، وهنا واحدة من أبرز فضائل هذا الكتاب.
“القدس العربي”