انتهت الانتخابات البرلمانية في العراق، وستعلن النتائج النهائية بعد حسم الاعتراضات، عبر عمليات إعادة العد والفرز اليدوي لصناديق بعض المحطات. وابتدأت تفاوضات الكتل السياسية، الرابحة منها والخاسرة على حد سواء، لتشكيل الحكومة المقبلة، فالنظام العراقي بعد 2003 نظام برلماني تنبثق السلطات التنفيذية فيه من كتل البرلمان، وبالتالي نحن إزاء نظام معقد، أوغل في تطييف المشهد السياسي، ومع كل دورة انتخابية يزداد التخندق العرقي والطائفي أكثر وأكثر.
من بين مشكلات نظام الحكم في العراق بعد 2005 الاتفاق غير المكتوب في أي وثيقة، الذي يحدد هويات شاغلي مناصب الرئاسات الثلاث: رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ورئيس مجلس النواب. ولا أحد يعلم على وجه الدقة لماذا تم استنساخ التجربة اللبنانية البغيضة في هذا الشأن، أو من أقنع الإدارة المدنية الأمريكية في الفترة الانتقالية، وجعلها تتبنى هذا الخيار عندما تم نقل السلطة للعراقيين في 2004، إذ اقررت إدارة بريمر مبدأ توزيع الرئاسات على الترويكا العراقية، ليصبح منصب رئيس الوزراء صاحب أغلب السلطات الحقيقية وقيادة القوات المسلحة، حكرا على الشيعة باعتبارهم الأغلبية، بينما يصبح رئيس الجمهورية عربيا سنيا، ويكون رئيس البرلمان الاتحادي كرديا.
في الفترة الانتقالية التي تم نقل السيادة فيها من الجانب الأمريكي إلى العراقيين تشكلت مؤسسات مؤقتة مهمتها الإعداد لكتابة الدستور والتهيئة للانتخابات البرلمانية، وقد تم توزيع الرئاسات حينها وفق الرؤية الامريكية، فكان رئيس الجمهورية الانتقالي، السني غازي عجيل الياور، ورئيس الوزراء الانتقالي: الشيعي إياد علاوي، ورئيس مجلس النواب المؤقت: الكردي فؤاد معصوم، لكن هذه التقسيمة لم تعجب الكرد، فكتب حينذاك القياديان الأبرز؛ جلال الطالباني ومسعود البارزاني رسالة مفتوحة إلى الرئيس جورج بوش الابن في 9 حزيران/يونيو 2004 نشرت في وسائل الإعلام، طلبا فيها بوضوح تعديل توزيع «كوتا المناصب» في العراق، وذكرا أن حصة الكرد يجب أن تكون أحد المنصبين السياديين في السلطة التنفيذية؛ رئيس الوزراء، أو رئيس الجمهورية، وبما أن الإدارة الأمريكية رأت أن رئاسة الوزراء من حق الشيعة باعتبارهم الأغلبية، لذلك طالب الزعيمان الكرديان بأن تكون رئاسة الجمهورية من نصيبهم. وهذا ما تم فعلا عند التحول من المجالس المؤقتة إلى المجالس الدائمية بعد انتخابات 2005. إذ فاز الائتلاف العراقي الشيعي بالكتلة الأكبر في البرلمان ورشح إبراهيم الجعفري لرئاسة الوزراء، الذي تعرقلت رئاسته فتحولت إلى نوري المالكي، وكانت رئاسة الجمهورية من حصة جلال الطالباني، بينما رشح السنة القيادي في الحزب الإسلامي حاجم الحسني كأول رئيس للبرلمان العراقي، لكن الدستور العراقي الملغم الذي مرّر بعجالة عام 2005 ربط المناصب الرئاسية الثلاث بشبكة نواب تكتّف صاحب المنصب، فكل رئيس من الرؤساء له نائبان من الطائفتين الأخريين، وإن هؤلاء النواب يتمتعون بحق الفيتو على قرارات الرئيس في منظومة متداخلة الصلاحيات اسمها مجلس الرئاسة في كل من الرئاسات الثلاث.
فوز قائمة التيار الصدري بالعدد الأكبر من مقاعد البرلمان بحصوله على 70 مقعدا، لم يعد أمرا حاسما يؤهل التيار لتشكيل الحكومة المقبلة
مطالبة الكرد بمنصب رئيس الجمهورية وقفت وراءها محركات يجب تسليط الضوء عليها، إذ تم الأمر وفقا لاتفاق كردي داخلي مفاده أن يكون منصب رئيس الجمهورية من حصة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، على أن يكون منصب رئيس الإقليم من حصة الحزب الديمقراطي الكردستاني، والنتيجة كانت مفصلة على مقاس الشخصيتين الأبرز حينذاك، فأصبح جلال الطالباني رئيسا للجمهورية، بينما أصبح مسعود البارزاني رئيسا للإقليم. لكن البعض أشاروا إلى أن منصب رئيس البرلمان أكثر أهمية وفاعلية من منصب رئيس الجمهورية، الذي لا يعدو كونه منصبا شرفيا لا يمارس الا بعض الواجبات البروتوكولية، بينما يشرف رئيس البرلمان على كل الاتفاقات والصفقات والاستجوابات، ومراقبة عمل الحكومة في البرلمان، إذن لماذا تخلى الأكراد عن المنصب الأهم؟ هنا يجب أن نشير إلى أن الرئيس الطالباني كان يمارس دورا أكبر من الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية، معتمدا بشكل أساس على شخصيته الكارزمية، وعلاقاته الواسعة بكل الفرقاء السياسيين في العراق، ما جعله ينجح في عهدته الرئاسية بشكل واضح، وفي الوقت نفسه فضّل الكرد الابتعاد بشكل رسمي عن صراعات الكتل السياسية في العراق، والتفرغ لبناء معطيات استقلال الإقليم في أقرب فرصة تسنح لهم، لذلك كانت مشاركتهم في الحكومة الاتحادية من «طرف الأصابع» والغاية منها تحقيق أكبر مكاسب للإقليم مع الابتعاد عن تحمل مشاكل العراق الاتحادي، وهذا الأمر يوافق رغبتهم في الحصول على رئاسة الجمهورية البروتوكولية، والابتعاد عن صداع ومشاكل رئاسة البرلمان وصراعات الكتل الشيعية والسنية. هذه التقسيمة التي تحولت يوما بعد أخر إلى سجن للأداء السياسي المحكوم بالطائفية السياسية، باتت اليوم خطا أحمر، ألحقت به حصص الوزارات والدرجات الخاصة التي تزداد أو تقل وفقا لمقاعد الكتل السياسية في البرلمان، ووفقا لضغوط الموقف السياسي. فما الذي تحقق في الانتخابات البرلمانية الأخيرة؟
فوز قائمة التيار الصدري بالعدد الأكبر من مقاعد البرلمان بحصوله على 70 مقعدا، لم يعد أمرا حاسما يؤهل التيار لتشكيل الحكومة المقبلة، فمنذ صدور الفتوى القانونية لرئيس المحكمة الاتحادية مدحت المحمود في انتخابات 2010 التي التف بها على معطيات الانتخابات، عبر إقراره تفسيرا للدستور مفاده؛ أن «من يكلف بتشكيل الحكومة هو الكتلة البرلمانية الأكبر تحت قبة البرلمان، وليس القائمة الانتخابية التي فازت بالانتخابات» وكانت النتيجة حينذاك سرقة فوز القائمة العراقية، التي يقودها إياد علاوي والحاصلة على 91 مقعدا في البرلمان، إذ تم تشكيل كتلة التحالف العراقي الموحد من قوائم شيعية تحت قبة البرلمان ليحصل نوري المالكي على العهدة الرئاسية. المفارقة أن الكتلة الصدرية حينذاك كانت جزءا من هذه الكتلة التي أصبح قوامها 128 مقعدا، ومع دعم الكتلة الكردستانية في البرلمان فاز المالكي برئاسة العهدة الثانية، بعد أن تم الاتفاق على توزيع المناصب في مؤتمر أربيل الشهير.
إذن نحن اليوم إزاء معطيات هي؛ كتلة صدرية تملك أكثر من 70 مقعدا، قريبة من كتلة «تقدم» السنية التي يقودها رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، التي وصل عدد مقاعدها إلى أكثر من 30، مع تسريبات بتحرك على كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني صاحبة أكثر من 30 مقعدا، لتشكيل كتلة برلمانية لأغراض التنافس على تشكيل الحكومة، لكن في المقابل هنالك حراك محموم من الكتل الولائية القريبة من إيران للتجمع في كتلة شبيهة بكتلة «البناء» في برلمان 2018، إذ اجتمع المالكي مع قادة الكتل الأخرى لتوحيدها مع كتلته دولة «القانون» الحاصلة على 37 مقعدا، يضاف لها كتلة «الفتح» الحاصلة على 20 مقعدا، يضاف لها كتلة «عزم» السنية التي يقودها خميس الخنجر والحاصلة على 17 مقعدا، مع التحرك على القائمتين الكرديتين، قائمة الاتحاد الوطني الكردستاني وقائمة حركة التغيير ولكل منهما 17 مقعدا، ويلحق بها قوائم صغيرة مثل قائمة فالح الفياض الحاصلة على اربعة مقاعد، والنتيجة سيتم تشكيل كتلة برلمانية تدعي إنها الكتلة الأكبر، وستواجه الكتلة الصدرية في صراع، لنكون إزاء موقف مشابه لما حصل بعد انتخابات 2018، والنتيجة خرق دستوري بعدم اعلان الكتلة البرلمانية الأكبر التي يجب أن تكلف بتشكيل الحكومة، وسيتم اللجوء للحيلة القانونية نفسها، وهي رئيس حكومة توافقي، يتفق عليه الرابحون والخاسرون مع الاتفاق على الرئاستين الاخريين.
لقد ابتدأت بوادر الضغوط التي يطرحها الفرقاء لتمرير تشكيل الحكومة المقبلة، إذ أكد رئيس البرلمان المنتهية ولايته محمد الحلبوسي في شهر أيار/مايو الماضي في لقاءات تلفزيونية عدة على وجود تحرك من الزعامات السنية، لاسترجاع منصب رئيس الجمهورية وفق اتفاق مع القوى الشيعية والكردية، ويقول الحلبوسي «من مصلحة العراق أن يكون رئيس الجمهورية سُنياً لكي يحظى العراق بدعم عربي كبير، ويستعيد حاضنته العربية التي افتقدها منذ سنوات طويلة» مبيناً أن «هذا المنصب من استحقاق السنة العرب في بداية تشكيل العملية السياسية بعد 2003 لكن الأمر تغير بتوافق سياسي بعيد عن الاتفاقات التي جرت لتقاسم السلطة في البلاد» كما طرح فكرة إقامة إقليم في الأنبار، أو إقليم سني يحظى بكل ما يحظى به إقليم كردستان، مثل تشكيل فيلق عسكري باسم حراس الإقليم ، بينما جدد البارزاني من جانبه التمسك بمنصب رئيس الجمهورية كحق للكرد، والمطالبة بمدينة كركوك الغنية بالبترول عبر المطالبة بتفعيل المادة 140 من الدستور، وأضاف إلى ذلك المطالبة بوزارات سيادية كالخارجية والمالية وتعديل حصة الاقليم من الموازنة المالية الاتحادية. التكهن بأسماء من سيجلس على كراسي الرئاسات الثلاث ما زال مبكرا، لكن إذا سارت التفاوضات باتجاه موقف مشابه لما حصل في انتخابات 2018، عندئذ ستكون حظوظ الكاظمي والحلبوسي وبرهم صالح جيدة في الحصول على عهدة رئاسية ثانية، لانهم ببساطة يمثلون رئاسات توافقية مقبولة حتى الآن.
كاتب عراقي
“القدس العربي”