يلجأ كُتّاب الروايات التاريخية التي تتناول مراحل من حياة بلدٍ ما، في صياغتها عادةً، إلى اختيار عوائل محددة تضم شخصياتٍ تلبي متطلبات موضوعها وتعكس المرحلة التي تتحدث عنها؛ ويلعب التداخل بين مصائر هذه العوائل وشخصياتها دورَه في إبراز الموضوع والمرحلة. ولا يعدّ أمراً هيناً على الإطلاق إنجاز رواية تاريخية ناجحة ومتألقةٍ إن لم نقل متفردة، بسبب ما يكتنفها من تشابك وتعقيد، يتطلب إلى جانب عوامل عديدة يُخْتَلف حولها، ابتكارَ بنية سلسةٍ ظاهرةٍ وعميقةٍ تتحرك فيها الأحداث والشخصيات، وابتكارَ منظومة سردٍ تتناغم معها، وتنقلُ الأحداث والشخصيات المتداخلة بسلاسة لا تُفقِد القارئ متعة المتابعة، مع دقة التقصي إن لجأ الكاتب إلى توثيق أحداثٍ وشخصياتٍ واقعيةٍ معروفةٍ، دون أن يضعها في إطار الخيال. والأهم من كل ذلك، إذا أرادت الرواية أن تكون مؤثرةً فعلاً، أن تنقل للقارئ داخلَ الشخصيات وتحوّلات هذا الداخل، إلى جانب نقل حركتها الخارجية الوصفية، بالإضافة إلى السيف المُشْهر على عنقها: أن تكون حديثة، معاصرة، وتستخدمَ تقنياتٍ مبتكرةٍ في صنعها، مع تفرّد أسلوب صياغتها، هذا إن لم تزدْ مهمةَ الصانع تعقيداً ضرورةُ إغنائها، ليس بالثقافة العالمية والتاريخية، والثقافة المحلية التي تعكس المرحلة المتحدَّث عنها وشخصياتها فحسب، بل بابتكار الثيمة الرمزية التي تجمع كل ذلك بين أجنحة الرواية التي تهمّ بالتحليق…
الشاعر والروائي الفلسطيني سليم النفار يَرْكب زورق صنع روايةٍ تاريخيةٍ، عن جزءٍ من مرحلة نهايةِ سبعينات، وثمانينات القرن الماضي في سوريا، يتعلق بمسألةٍ مهمةٍ تتضمن علاقة الشعبين السوري والفلسطيني اللذين يمتلكان تاريخاً وعلاقاتٍ اجتماعيةً تجعل منهما شعباً واحداً، في ظل ما يحاول تفريقهما من ظاهرٍ غالبٍ وراهنٍ، يعتّم على جوهر هذه العلاقة، ويتعلق بحيادِ إن لم يكن تأييد معظم قيادات القوى والأحزاب والحركات الفلسطينية المهيمنة على المشهد الفلسطيني، وعلى رأسها السلطة الفلسطينية وحماس واليسار الفلسطيني الأعرج، لديكتاتورية بشار الأسد في سحقه المهول للشعب السوري الذي احتضن الشعب الفلسطيني، سواء في مراحل مقدرته على ذلك، أو مراحل تضرّجه بدمائه التي تزيدها ألماً وأسى مواقف الظاهر المهيمن الفلسطيني.
ويُحسَب لرواية النفار كشفُها عن جوهر هذه العلاقة بتصويره لكفاح الشعبين السياسي، ليس ضد إسرائيل التي يهادنها الظاهرُ فحسب، بل أيضاً ضد نظام حافظ الأسد الذي اعتبره فلسطينيو الجوهر مع السوريين الذين قاوموه واعتبروا استبداده وسحقه لإرادة الشعبين في السبعينات والثمانينات هو العدو الفعلي العائق أمام مواجهة العدو الوجودي والداعم لبقائه، من أجل بقائه. وهو ما استمر واقعاً خارج زمن الرواية، في أمثولة احتضان مخيم اليرموك للسوريين المهجرين، وتدمير بشار الأسد لهذا المخيم على رأس المقاومين والمدنيين الفلسطينيين والسوريين. كما يُحسَب لروايته التي تناولت مكاناً رئيسياً كجزء من هذه المرحلة هو اللاذقية، تحت عنوان: «ليالي اللاذقية»، كشفُها، للكفاح اليساري المشترك للشعبين ضد الديكتاتورية، وإن حَصَرَ النفار هذا اليسار بجزء منه فقط هو رابطة العمل الشيوعي، وقَصَر الباعَ الفني لهذه الرواية، فأفقدها بعض عناصر صنع الروايات الخارقة جدران المألوف، وأبقاها روايةً جميلةً بواقعيتها، لا تحمل همّ السحرية الأخاذ، ولا لغةَ التناغم الآسر الذي ينبض بالصور، وتنبض به خلجات الحوادث والشخصيات، ولا تراكيبَ وتداخلات البنى الداخلية للرواية هيكليةً وأحداثاً وشخصيات.
في «ليالي اللاذقية»، يضع النفار روايته في بنية بسيطة، تتضمن اثنين وعشرين فصلاً، بعناوين تبدأ بـ «الطريق»، وتنتهي بـ«مآلات غامضة»، تُبقي الرواية مفتوحةً على ما سيأتي من أحداثٍ، لم يتمّ كشف الجوهر الذي ستؤول إليه حركتها من انفجار، بما يكفي. وتأخذُ غالبية هذه الفصول عناوين بأسماء شخصيات الرواية، والبقية القليلة بأحداثها. مع مقدّمة طافحةٍ بالحب لمدينة اللاذقية، وطفولة وشباب الكاتب فيها، كتبها الشاعر منذر مصري عن غربة الفلسطيني وتغيرات اللاذقية وبقاء الحب. ويختار النفار منظومة سردٍ تتضمن مقدمة صغيرة عن الشخصية صاحبة العنوان، يسردها الراوي العارف الذي هو الكاتب حيث لا شخصية له في الرواية، ومن ثمّ تسردُ الشخصية بصيغة سرد الذات عن نفسها وأحداثها وعلاقتها ببقية الشخصيات، من دون وجود تبرير ضمن البنية لهذا النوع من السرد، وقد يعود الراوي العارف للسرد بعد هذا في بعض الفصول، كما يسرد الفصولَ التي تأخذ عناوين أحداث. ويجري السرد بنوعيه في ساقيةِ لغةٍ بسيطةٍ لم تخلُ من بعض أخطاء النحو والإملاء القليلة، ويجري فيها الحوار باللغة الفصحى البسيطة، التي لا تعكس جنسيات وطوائف الأبطال في اللاذقية التي تتمازج فيها الجنسيات والطوائف بتنوع كبير، كما فعل الكثير من الروائيين.
وفي «ليالي اللاذقية» ينجح النفار في اختيار عوائلِ روايته، ويسرد من خلالها تمازج مجتمع اللاذقية الجميل قبل نظام حافظ الأسد الذي دمره بالإرهاب وإشاعة الخوف، كما يسرد أحداث حرب الثمانية والأربعين والنزوح الفلسطيني، إلى لبنان وسوريا، مثل نزوح عائلة أبو عبدالله الرومي الميسور الذي نزح قبلها بقليل من حيفا، وسكن حي الطابيات الغني، ويُجري الأحداث إلى الحرب الأهلية اللبنانية، وتأثيرها على عوائل لبنانية اضطرت للهجرة إلى اللاذقية، مثل عائلة عمر البيروتي، أحد أبرز شخصيات الرواية، وتمازج العوائل النازحة والمهاجرة مع عوائل اللاذقية الثرية مثل عائلة الشيخ فضل حورية من جبلة، وعبد الفتاح الغانم من حيّ الصليبة الثري، والعوائل الفقيرة مثل عائلة الطيار من حي السكنتوري الشعبي.
ينجح النفار كذلك في تحريك المكان بشاعرية التمازج والنشاط السياسي المشترك والحب وعلاقات المصاهرة، بين سكان أحياء اللاذقية الغنية والفقيرة، ممدداً هذه الأحياء إلى بعض أحياء دمشق وجامعتها وإلى مخيم اليرموك الذي عانى التدمير بعد زمن الرواية كما سلف، وتعرّض العائلات والمكان لاستبداد وفساد وإفساد النظام. غير أن النفار يُبقي اختيار العوائل وتداخلها، وتحريك المكان والنشاط السياسي به، ضمن بساطة التعامل دون الخوض في عمق الحقائق التي مارسها النظام وتفجرت براكين بعد ذلك، مثل المجازر التي ارتكبها وعلى رأسها مجزرة حماة، والتمييز الطائفي الخفي الذي مارسه في تلك المرحلة، لكي يُغني فصله الختامي المقصور على ذكر المآلات الغامضة، منسجماً مع عرض فصوله، دون أن يتعداها إلى التنبؤ بما سيحصل، لفقدان أسس هذا التنبؤ.
في «ليالي اللاذقية» يلتقط النفار بنجاح أهم ما يميزها في المرحلة المروية المختارة/ النشاط السياسي للشباب السوري، وخلافات الرأي بين الإسلاميين المتشظين عن جماعة الإخوان المسلمين واليساريين، لكنه يَقْصُر التقاطه على منظمة يسارية واحدة هي رابطة العمل الشيوعي التي يضعها خطأً بتسمية «رابطة العمل الشيوعية»، ولا يمدّ خلافات الرأي إلى ما كان يحدث بين اليسار نفسه من خلافات حول الديمقراطية، والديمقراطية الشعبية، وهو ما كان يؤثر في اصطفاف جزء من هذا اليسار مع النظام رغم معارضته له، ويؤثر في الأحداث التي جرت بعدها. وكان هذا الاقتصار سيكون مبرراً في الرواية لولا تعرّض الكاتب له بضَعفٍ في دقة التقصي، وبأخطاءٍ في التاريخ والتسمية: «منذ أشهرٍ لم يلتقيا كذاكَ اللقاء، جلسا طويلاً يخططان لمستقبلهما، ويتبادلان المشاعر الجياشة، ولأوّل مرّةٍ تَعْرف يومها سميّة عن ارتباط حبيبها، بالحزب الشيوعي رابطة العمل ذلك التوجه الذي قاده مجموعة من الشيوعيين الوطنيين، رداً على تفرّد الأمين العام للحزب ــ خالد بكداش ــ في العام 1976 وموالاته للنظام، وانخرط في ذلك التوجه العديد من الشباب السوريين والفلسطينيين». لكن الحقائق تقول إن الانشقاق كان في الحزب الشيوعي السوري ببيان نيسان (أبريل) عام 1973، الذي أصدره خالد بكداش، ضد ما سمي بعده الحزب الشيوعي السوري ـــ المكتب السياسي، والذي حسم أمره بالاتجاه الديمقراطي والقطع مع الديمقراطية الشعبية، وتخلّى عن مبدأ ديكتاتورية البروليتاريا عام 1977.
وفي «ليالي اللاذقية» ينتصر النفار لحركة الحداثة كجزء من الصراع السياسي بين الديمقراطية والاستبداد، وإن بقيت روايته على انصهار خجول بها، وذلك في انحيازه لقصيدة النثر، وبالأخص قصيدة الشاعر رياض الصالح الحسين. ويجد النفار ثيمته التي تمدّ روايته بالأجنحة في قصيدة «سورية» التي تهيمن روحُها على أجواء الرواية وتتكرر ثلاث مرات فيها قبل أن تختمها، لهذا الشاعر الذي اخترق زمنه، وتوفي شاباً في تشرين الثاني (نوفمبر) 1982، ولم يعلمْ أن قصيدته تلك ستحلّق أجنحةً في قلوب السوريين والفلسطينيين التي رجفت من تنبّؤها بالدمار القادم لسوريا، لكنها تعاهدتْ على شقّ دروب الحرية أمامها، مع أيدي الناس الطيبين الذين اعتمدتْهم الرواية أبطالاً لها:
«وحدهم كانوا وما زالوا هؤلاء الفتية، يحبون ويعشقون وينجبون، وفي دروبٍ معتمة يغنون:
«يا سورية الجميلة السعيدة
كمدفأةٍ في كانون
يا سورية التعيسة
كعظمةٍ بين أسنانِ كلب
يا سورية القاسية
كمشرطٍ في يد جرَّاح
نحن أبناؤكِ الطيبون
الذين أكلنا خبزكِ وزيتونكِ وسياطكِ
أبداً سنقودكِ إلى الينابيع
أبداً سنجفّفِ دمَكِ بأصابعنا الخضراء
ودموعَك بشفاهنا اليابسة
أبداً سنشقّ أمامك الدروب
ولن نتركك تضيعين يا سورية
كأغنية في صحراء».
سليم النفار: «ليالي اللاذقية»
مكتبة كل شيء، حيفا 2022
180 صفحة.
“القدس العربي”