عندما أمسكَتْ يده بالميغافون لأول مرة إيذاناً ببدء تصوير فيلمه السينمائي الأول، كان مؤمناً بأن حياته تغيَّرتْ وستُغيِّر محتوى بكرات الأفلام السينمائية، بل سيكون واحداً من أهم ريجيسير الأفلام في العالم، ليس فقط في صرخة إيطالية حادة تلفظ كلمة أكشن، بل ببصمة صوتية وتقنيات متفردة جادة وتَخَيُّلية في آن، ربطها بقوة مواضيعه واختلافها، وأظهر من خلالها وبشكل دقيق تناقضات المجتمع الإيطالي والقيم الشرقية للقرن العشرين.
لم يكن معروفاً حتى وقت قصير أنّهَ كان رساماً مجتهداً في بداياته، فيلليني لم يشعر بالتعب مهما رسم، كان يرسم ويرسم، أما في سِنيِّه الدراسية الأولى فقد كان موهوباً في تقليد حركات وأصوات معلمي المدرسة، ثم بدأ برسومات كاريكاتيرية استمر فيها حتى سنوات شبابه، سَخِرَ فيها من الكنيسة الكاثوليكية، المجتمع الإيطالي، الخطابات الفاشية ويونيفورم المدارس الحكومية كل يوم سبت!
راسل بعدها العديد من المجلات ونشر رسوماته في المجلات المحلية الناقدة، خصوصاً بعد انتقاله من مدينته البحرية ريميني إلى روما وتعرُّفِهِ على الـ Gis «المصطلح الأمريكي المتعلق بالخدمات اللوجستية للقوات الأمريكية» التي احتلت روما سنة 1944 بعد سقوط الفاشية. ما لبث بعدها أن أسّس مرسماً صغيراً سَخِر فيه من القوات الأمريكية، من خلال مجموعة أعمال فنية حملت مضمون The Funny Paid Shot (طلقة مضحكة مدفوعة الثمن.)
كان لقاؤه بكاتب السيناريو الإيطالي روسوليني عام 1951 أول تماس مباشر وفعلي مع السينما، حيث راقب عمليات الإنتاج من خلال تسجيل الكثير من الأفلام الكلاسيكية وكيفية التأسيس للعمل السينمائي، هناك قرر فيلليني أن يصبح مخرجاً سينمائياً ليصَوَّرَ ويطوِّر أحلامه وأفكاره باستخدام أقلام الفلوماستر الملونة بفنتازيا اللقطة الثابتة والمتحركة، الأمر الذي استخدمه في الكثير من سكيتشات تقريبية رسمها للشخصيات ولمفردات الزمان والمكان، مصحوبةً برسومات الأزياء والماكيير، لِتُكَوِّنَ خطوطُ أقلامه كواليسَ أفلامه. وعندما وجد فيدريكو فيلليني في اللوكيشن، دائماً ما كان يصطحب الكثير من سكيتشاته، لِيُلبِسَ المَشاهدَ رؤيتَهُ الخاصة قبل الشروع بالعمل على أيٍّ من أفلامه التي أحرجَ من خلالها الخط السميك والخطة الثابتة للأفلام الكلاسيكية.
فيدريكو فيلليني ابن ريميني المتمرد، أيقونةٌ إخراجية لا يحدها زمان، فبالإضافة إلى كل المشاهد وتفاصيلها وتفاصيل الجسد، الذي يَسنِد إليه الدور في الفيلم، كان فيلليني قد طور الكيفية التي يجب على كل ممثل أن يجسد بها شخصيته قبل إسناد ذلك الدور، وهكذا كان دقيقاً في اختيار ممثليه والكادر الفني فعرض من خلال سكيتشاته السريعة جداً ما يمكن أن يكون حجر زاوية في توجيه أحداث الفيلم، فبنى هارموني خاص مع فريق العمل قبل البدء بالإخراج. يتحدث فيلليني عن ذلك: «عندما أُعِدُّ أفلامي، أكتب قليلاً. أفضِّلُ أن أرسم الشخصيات والمناظر، لقد تبنَّيتُ هذه العادة عندما كنتُ ما أزال أعمل على تنويع المَشاهد في مواقع التصوير. منذ ذلك الوقت، كنت أكمل اللوحة بما يخطر في بالي لأوظفها في المشهد مباشرةً، فتكون هذه الأفكار المؤقتة إنتاجاً للفرصة.. في ما بعد تتحول تلك لأفكار إلى إشارات أستخدمُها في توجيه فريق العمل الذي أعمل معه: كتعيين مصممي الأزياء والماكيير مثلاً!» إلا أن أسلوبه الخاص في رسم السكيتش، جعل بعض كاريكاتيراته ممعنةً في المبالغة، ما حدا ببعض النقاد أن يفصلوا بين أسلوبه كرسام سكيتش وكمخرج سينمائي.
من خلال 500 عمل من الرسومات المتنوعة بين صور من موقع التصوير، والكثير من الإكسسوارات، التي يعود تاريخ عرضها الأول إلى عام 1984 إبان العرض الأخير لمختارات من أعماله السينمائية في باريس، عندما كان فيلليني ما يزال على قيد الحياة. لكن في زيوريخ وحتى اليوم ما يزال عرض تلك الأعمال في متحف الفن مستمراً لغاية الرابع من سبتمبر/ أيلول 2022 بالتعاون مع مؤسسة فيلليني ـ سيون/ سويسرا، معتمداً على جامعَي اللوحات ياكوب وفيليب كيل.
جزء كبير من الصور المعلقة بالأبيض والأسود تعرض كيفية تحضير فيلليني لأفلامه، وهي لكل من جامعي الصور: ميمو كاتارينيش، أوزفالد جيفيراني، جي بي بوليتو، بيير لويجي براتورلون وتازيو سيشيارولي، مع العديد من مقاطع أفلام فيلليني، لمساعدة الزوار على الربط بين الصور المعلقة على الجدران وعناوين وملخص الأفلام.
جزء كبير من الصور المعلقة بالأبيض والأسود تعرض كيفية تحضير فيلليني لأفلامه، وهي لكل من جامعي الصور: ميمو كاتارينيش، أوزفالد جيفيراني، جي بي بوليتو، بيير لويجي براتورلون وتازيو سيشيارولي، مع العديد من مقاطع أفلام فيلليني، لمساعدة الزوار على الربط بين الصور المعلقة على الجدران وعناوين وملخص الأفلام.
بالمقارنة مع المعرض الذي أقيم في مدينة «إيسن» الألمانية في شباط من العام الجاري يضيف متحف الفن في زيوريخ 40 صورة من أرشيف صوره الضخم، لم يرها الزوار في «إيسن». الأعمال الإضافية الأربعون يتقاسمها كل من متحف فيلليني في ريميني (إيطاليا) الذي تأسس العام الفائت و»مؤسسة بولو سينما» وجامع أعمال فيلليني غرازيانو ماندوزي، وهي عبارة عن أزياء، إكسسوارات، ديكورات وصور.
قبل افتتاح المعرض وفي Preview دُعِيَ إليه الصحافيون والمختصون والمهتمون بتلك السكيتشات وبالفن السابع، تتساءل كاترين هوغ معاونة مدير متحف الفن في زيوريخ «هل أبدعَ فيلليني في الرسم ليس من أجله فقط كرسام سكيتش؟ أم أنه فعل ذلك من أجل الآخرين أيضاً، فمثلاً عندما رسم الإكسسوارات، هل كان يقدم إيحاءات للعاملين في ذلك المجال، لكي يتصوروا ما يعنيه ويتناقشوا معه؟». يجيب على تساؤلها جيرالد موران السيناريست والمنتج وصاحب مؤسسة فيلليني في مدينة سيون السويسرية: «يختار فيلليني الممثلين ثم يختار الأزياء، فقد جاب إيطاليا بأكملها، ولم تتوانَ وسائل الإعلام عن مساندته في ذلك، فكتبت الصحف الإيطالية أن فيلليني يبحث عن امرأة بدينة، أو عملاقة، أو نمط معين من النساء أو الرجال، لقد كان يبحث عن المسرحيين أو السينمائيين غير المحترفين ليمضي وقتاً طويلاً معهم، ويلتقط صوراً لهذا الغرض، وتشهد على ذلك 50000 صورة. إنه لا يريد أن يلعب الممثل دوراً، بل أن يُجسِّد دوراً واقعياً. وحالما رأى هواةً يبدأ بالرسم فيحاول أن يوائم بين الرسم والشخصية ليوظفها في أفلامه».
يمتلك جيرالد موران مفكرةً ضخمة لفيلليني كان المخرج الإيطالي المهم قد كتبها بخط اليد، واثنين من رسوماته الأصلية: الأول يعود لتاريخ 24/7/1975 وهو عبارة عن كاريكاتير رسمه للممثل دونالد سادرلاند- وقتها لم يكن قد اختاره بَعْد لتجسيد دور كازانوفا – أما العمل الثاني وهو كاريكاتير آخر للممثل ذاته، الذي رسمه من جديد بعد شهرين 24/09/1975 فيختار سادرلاند رسمياً لتجسيد دور كازانوفا.
كان يرسم فريق عمله من الممثلين أولاً، ثم يرسم من جديد كيف على أولئك الممثلين أن يجسدوا أدوارهم. وكانت تلك أهم وظيفة لكل رسوماته. بعدها، يعطي هذه الرسومات لمصمّمي الأقنعة والأزياء ولمهندسي الديكور ليضع شخصياته في جو العمل بشكل كامل ليؤسس بذلك تيار الواقعية الجديدة في السينما العالمية.
. تتساءل كاترين هوغ من جديد: «لكن في أعمال فيلليني، هناك الكثير من الإغواء في الرسوم تصل إلى حد المبالغة، كامرأة بصدر كبير، هل رآها فيلليني بعيون الآخرين؟ ربما لو رآها، ما كان ليرسمها، السؤال هنا: هل أراد أن تكون تلك الرسوم مُستفِزَّة؟ أم أنه أرادها أن تكون مثيرةً للسخرية والنقد؟ أم أنها كانت تعكس واقع العصر الهِيبّي، أو العصر الجنسي؟ أو ربما كان فيلليني يشعر بجو من الحرية آنذاك؟». يجيب جيرالد موران: « نعم ولا. عندما كان مراهقاً، اختبر فيلليني الضغط الكاثوليكي والفاشي وعمل كرسام كاريكاتير يقدم رسوماته إلى مجلات النقد اللاذع والهجاء، لقد أراد يكون حراً من كل القيود في ذلك الوقت، فعندما رسم صدر امرأة كبير كان السبب في ذلك أنه أراد أن يحب الحياة بكل الأشكال التي تمثِّلُها. لقد أحب الناس الذين اختبروا الحياة بشكلها الحقيقي، لم يحب فيلليني أبداً، الموديلات التي لعب فيها الممثلون أدوارهم المصطنعة، لكنه سمح في بعض الأحيان ببعض الاستثناءات، ما أحبه فيلليني كان مفهوم الحياة في كل تفاصيلها وامتلائها دون أي حساسية من أي شيء، لقد أُعجِبَ بالنساء اللواتي عشن حياتهن بكل أبعادها، كما عِشنَ قبل التاريخ، وقد عنى بذلك النساء الكريمات جسدياً! بالنسبة للنساء والرجال عبَّر فيلليني عن ذلك: (عندما كان هناك نقص في الطعام خلال الحرب وضغط من الكنيسة الكاثوليكية فإن القدرة الجنسية ستنعدم، لكن بعد الحرب ستكون لدينا الفرصة بأن نأكل ما نحب، وبذلك ستكون هناك رغبةٌ كبيرة بالجنس وتناول طبق كبير من السباغيتي يملأ الحياة بذلك الصدر الممتلئ).
الإقبال الشديد لزوار من مختلف الفئات العمرية على رؤية الكثير من السكيتشات التي رسمها فيلليني، لم يكن صدفة، لأن تلك الرسومات تحتوي على فن حسِّي خالص يضع الأشياء في موقعها الصحيح، ورؤية فلليني اليوم مرَّةً أُخرى ليس شيئاً لا لزوم له، لأن سكيتشيهاته التي يتم الاحتفال بها في الطابق الثالث، قادرة على السماح له بالبقاء مع مرور الوقت في صورة مختزلة برسوم اللحظات الصغيرة، وهو ما انعكس في أفلامه العالمية المضطربة المليئة بالحيوية والمتناقضات مثل فيلميه ( La Dolce Vita «الحياة حلوة» و La Strada «الطريق») كصانع خيال ورسام يظل فلليني في معظمه فناناً ذا رؤية، حيث يعرض تَخَيُّلاتِه الشبيهة بالحلم على الشاشة الكبيرة. ومع ذلك، يلقي ظلاله على شخصية المخرج الحداثي، الذي حوَّل رسومه في سكيتشاته إلى مغناطيس يجذب الأفكار ويوظفها في أعماله بذاتيّة قوية بقيت على اتصال مباشر مع اضطراب وتَشَوّش (مجتمع العالم) حتى الآن.
إسماعيل كرك – القدس العربي