في ولايته الأولى طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مشروع “الاستقلال الاستراتيجي” الأوروبي مع البقاء في “الناتو”. والمفترض في ولايته الثانية، بعد أن خسر حزبه الأغلبية النيابية وصار العمل الداخلي أكثر صعوبة، أن يتابع ماكرون المشروع بقوة لكونه مضطراً إلى أن يعطي الأولوية لممارسة دور “رئيس خارجي”. وفي الوقت نفسه عرض المسؤول الأعلى للشؤون الأمنية والسياسية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل خطة عنوانها “البوصلة الاستراتيجية” لأوروبا. كان هاجسه كون أوروبا في خطر لأنها تعاني “التقلص الاستراتيجي” و”الانكماش الديموغرافي”. فالقارة العجوز تشكل خمسة في المئة من سكان العالم وتواجه الانكماش الاقتصادي والتجاري وتهديد ما سماها “القوة المعيارية”. وهي في حاجة إلى أجوبة عن أسئلة مهمة، “ما العمل بفاعلية أكثر لمواجهة التحديات والتهديدات؟ وما أفضل طريقة لإبراز نفوذ أوروبا على المستويين الإقليمي والدولي؟”.
حرب أوكرانيا أحدثت تبدلاً في الأولويات والسياسات. اندفع ماكرون في تقوية “الناتو” بعد أن وصفه بأنه في حالة “موت سريري”. وأوروبا تجاوزت خلافاتها مع أميركا حول العلاقات مع روسيا والصين، وركزت على وحدة الموقف مع أميركا عسكرياً ودبلوماسياً دعماً لأوكرانيا. لا، بل إن القارة التي كانت مرتاحة للتمتع بالحياة تحت المظلة الأمنية الأميركية بأقل كلفة، وجدت نفسها مضطرة إلى العودة من “إجازة من التاريخ” تحملت واشنطن كلفتها.
والظاهرة البارزة حالياً هي “عسكرة أوروبا”. ألمانيا التي كانت خاضعة لقيود صارمة بعد اجتياحات هتلر وخسارته الحرب العالمية الثانية، رصدت مئة مليار دولار لبناء “أقوى جيش بري في أوروبا”، كما قال المستشار الاشتراكي أولاف شولتز. فنلندا المحايدة منذ الحرب العالمية الثانية انضمت إلى “الناتو” مع السويد، وقررت شراء أسلحة دفاعية من أميركا. ومن خارج أوروبا، تجاوزت اليابان بموافقة أميركا القيود المفروضة عليها بعد الحرب العالمية الثانية. وقررت نشر آلاف الصواريخ بعيدة المدى لمواجهة خطرين: الصواريخ الباليستية الكورية الشمالية، والقوة البحرية الصينية التي صارت أقوى من البحرية الأميركية والقوة الجوية التي تتعاظم.
قبل حرب أوكرانيا مارست روسيا سياسة تخويف أوروبا عسكرياً، واختراق مجتمعاتها عبر تمويل الأحزاب المتطرفة في اليمين واليسار، وتوسيع الشق بين أوروبا وأميركا، والتوسع في ارتهان القارة للغاز والنفط الروسيين. وما برر به بوتين غزو أوكرانيا هو رد الأخطار على الأمن القومي الروسي عبر أي تقدم للحلف الأطلسي نحو أوكرانيا، لكن الحرب كشفت أسطورة الجيش الروسي وتحديث أسلحته. فهو، في أول مواجهة مع قوة متوسطة يسلحها الغرب، لا قوة كبرى، فشل في ثلاثة أمور، أولها إسقاط النظام في أوكرانيا واحتلال العاصمة كييف، وثانيها الاحتفاظ بالأرض التي احتلها في البداية، وثالثها إدارة الأسلحة المتعددة في المعركة والانتقال من الأسلوب الجامد في انتظار الأوامر من فوق إلى الأسلوب المرن في إعطاء المبادرة لمن على الأرض. والعامل الجديد هو أولاً نزع الخوف التاريخي من اندفاع الدبابات الروسية إلى عواصم أوروبا بسهولة ويسر، وهو ثانياً استعادة الثقة بقدرة الأوروبيين على الدفاع عن أنفسهم والقيام بمهام خارج إطار”الناتو”.
من هنا تأتي ضرورة العودة إلى مشروع ماكرون و”البوصلة الاستراتيجية” التي طرحها بوريل. فالقارة العجوز غنية وخلاقة. وإذا كان الدخل القومي لروسيا أقل من دخل نيويورك وحدها، فإن الدخل القومي للاتحاد الأوروبي أكبر من الدخل القومي الأميركي، وبالطبع من الصيني والياباني، لكن التغيير الجذري يأخذ وقتاً، وخصوصاً حين يرتبط القرار بإجماع 27 دولة في الاتحاد الأوروبي. ولا مهرب منه، حيث على أوروبا أن تأخذ موقعها ودورها على قمة العالم إلى جانب أميركا والصين وروسيا.
قيل عن الصين إنها “عملاق نائم” استيقظ أخيراً. وأوروبا التي حكمت العالم بما فيه أميركا والصين على مدى قرنين، واشتبكت في حروب مع روسيا القيصرية، هي عملاق نائم دقت ساعة استيقاظه. وإذا كان “اختلاف الأئمة رحمة للأمة” كما قيل، فإن تعدد الأقطاب على قمة العالم رحمة للبلدان الصغيرة والمتوسطة.
“اندبندنت عربية”