بفارق أسبوع بينهما، رحل على التوالي الناقد والمترجم والأستاذ الجامعي السوري فؤاد المرعي، ثم الشاعر عادل محمود. مرّ رحيل المرعي بهدوء وسلام، فنعاه بعض طالباته وطلابه، وبعض الذين كانوا مقرَّبين منه في تجربة “ملتقى جامعة حلب الأدبي” التي كان يحرص على التعاطي بأبوية معها ومع أولادها الضالين!. بضجيج، مر رحيل الشاعر عادل محمود، فلم ينجُ لمناسبة وفاته من الأسئلة كما نجا المرعي، لم ينجُ تحديداً من المساءلة فيما يخص موقفه من الثورة.
لا يُعرف موقفٌ موثَّق من الثورة لفؤاد المرعي، والذين نعوه لم يتوقفوا عند هذه النقطة. سيرته المهنية، لمن يريد محاسبته، هي سيرة شخص “غير مشاكس” سياسياً، ما سمح بتسلمه منصب وكيل كلية الآداب-حلب للشؤون العلمية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. توجهه السياسي كان أقرب إلى الحزب الشيوعي، الجناح المتحالف مع الأسد، بما يتوافق تماماً مع دراسته في الاتحاد السوفيتي التي بقيت إلى حد كبير حاضرة في حياته كمترجم عن الروسية. لو شئنا ترجمة هذه السيرة بتشدد، سنلاحظ أن الرجل قبِل “الترقي” في وظيفته بينما كانت دماء عشرات ألوف الضحايا في مجزرة حماة ما تزال حارة، وبينما كان هناك الألوف من منتسبي الإخوان والمحسوبين عليهم قيد الاعتقال والتعذيب، وكذلك حال الألوف من منتسبي رابطة العمل والمكتب السياسي الشيوعيين. الأسوأ، بموجب مسطرة صارت دارجة في السنوات الأخيرة، أنه أدرك الثورة ولم يقف إلى صفها.
التعبير الأخير ليس اعتباطياً، فهناك إلى جواره أقوال استُخدمت بوفرة من نوع “الثورة تجبُّ ما قبلها”. الذين يستخدمون سيف الأحكام هذه ليسوا إسلاميين بالضرورة، حسبما تحيل الأقوال المبنية على قياس ما نصادفه من أحكام شرعية خاصة بمن أدرك الإسلام ولم يسلِم، أو أسلم فجبًّ إسلامُه ما قبله. باللغة ذاتها، أدرك عادل محمود الثورة، ولم يقف في صفها، ولم يكتب منافحاً عنها، بل يمكن احتساب بعض مقالاته بعد الثورة كخدمة موضوعية للأسد من حيث تصويبها على خصومه، رغم أنه لم يمدح يوماً الأسد الأب أو الابن، وكان يُفهم تلقائياً “من كتاباته أيضاً” أنه في موقع المعارض الذي يتوق إلى الحرية.
في شباط الفائت رحل وليد إخلاصي، الأديب الحلبي المعروف، فسلّط خبر وفاته الانتباه على موقفه السياسي. من ذلك ظهوره في حديث تلفزيوني، بعد استعادة الأسد السيطرة على كامل حلب، وقوله أنه منذ زمن بعيد يرى العلَم والرئيس رمزين للبلد يجب احترامهما، وصولاً إلى حديثه عن آخر أعماله الأدبية، والذي “كما يُفهم منه” بمثابة ترجمة إنشائية لما يردده إعلام الأسد عن المؤامرة الكونية التي يتعرض لها. نستحضر في هذا السياق وليد إخلاصي لتمايزه عن مثالَي المرعي ومحمود، فإخلاصي كان عضواً في مجلس الشعب، بل كان عضواً في اللجنة المصغَّرة التي أوصت بتعديل الدستور عقب وفاة حافظ الأسد، ليتناسب سنّ الرئيس دستورياً مع ابنه بشار الذي كانت تنقصه خمس سنوات عن المطلوب.
من المفترض ألا نضع في سلة واحدة مثقفاً اختار بملء إرادته أن يكون في منصب سلطوي كعضوية مجلس الشعب “وليد إخلاصي”، وآخر عُيِّن في منصب أكاديمي يستحقه من بين الكادر التدريسي الموجود آنذاك “فؤاد المرعي”، وثالث كان الأبعد من بينهما عن مؤسسات السلطة “عادل محمود”. لا يقيم هذا التمييز أولئك الذين يقسمون الزمن إلى الثورة وجاهلية ما قبل الثورة، ويعتبرونه كافراً كل من أدرك الأخيرة ولم يعتنقها. هنا حدٌّ يشبه حد السيف، ولا يقبل أصحابُه التهاون فيه، ويفعلون ذلك بطهرانية لا تذكّر حقاً سوى بطهرانية الأولياء والقديسين.
هذه الفكرة “عن جاهلية ما قبل الثورة” ليست شائعة ضمن شريحة ضيقة، فهناك شرائح واسعة تنظر إلى كل ما قبل الثورة كما ينظر بسطحية ونمطية مؤمنٌ ما إلى تسمية الجاهلية، فيعتقد أن كل ما سبق الإسلام مذموم، ولا يندر بالطبع فهم الجاهلية كاشتقاق من الجهل. هؤلاء ينظرون ضمناً إلى أنفسهم كأنهم انتقلوا بالثورة إلى دار الحق بعدما ظهر الأخير، وغير مستعدين للتسامح مع الذين لم يمسسهم ذلك النور.
في القسمة أعلاه لا يُنظر على الأقل بجدية كافية إلى درس مجزرة حماة 1982، والحديث هنا عن مدينة صغيرة، قتل الأسد فيها حوالى خمسة وثلاثين ألفاً من سكانها، ودمّر أجزاء واسعة منها ليعيد الإعمار على نحو يشتت بنيتها السكانية والمجتمعية السابقة. أثناء مجزرة حماة وبعدها، كانت حياة السوريين مستمرة وكأن شيئاً استثنائياً لم يحدث، وتبرير الصمت وعدم الاكتراث بوحشية الأسد يجعل من الخوف سمة “جاهلية” لا يجوز أن يحملها من أدرك زمن الثورة. ليس تفصيلاً ثانوياً أن نسبة ضحايا المجزرة إلى عدد سكان المدينة قد تكون مساوية لنسبة الضحايا إلى عدد سكان سوريا منذ عام 2011، وليس تفصيلاً ثانوياً أن تواطَأ سوريو الأمس على تسمية شديدة الحيادية هي “الأحداث” للإشارة إلى المواجهات بين الأسد والإخوان، وأن يتواطأ اليوم أمثالهم على تسمية “الحرب”.
ثمة اختلاف عن مواجهة الثمانينات يتعلق بطبيعة العسكرة التي رفعت شعار التحرير، وآلت إلى انقسام إضافي بين الواقعين تحت سلطة الأسد وغيره من السلطات الأخرى، فضلاً عن اللاجئين خارج حدود سوريا. إزاء هذا الانقسام، هناك على الأقل اتتقائية في التبرير لبعض الموجودين تحت سلطة الأسد، من خلال التسامح مع خوفهم المبرر، وهذا التسامح لا يستفيد منه على قدم المساواة جميع الواقعين تحت سلطة الأسد؛ هو امتياز لبعض الباقين في أرض الجاهلية بعدما هاجر غالبية أصحاب الحق.
لعل القياس على الجاهلية والإسلام يكتمل بتلك الأفكار المتفائلة عن ملايين السوريين في الخارج، حيث ستتيح لهم حريتهم في بلدان ديموقراطية قيادةَ مشروع التغيير، ولا يندر بينهم من يحلم بعودته فاتحاً. بينما أول ما ينقض هذا التفاؤل واقعياً هو ذلك التقسيم بين خارج “حرّ وعلى حق” وداخل جاهلي “خانع وراضٍ بالأسد”، فإذا كانت القسمة قد أفشلت الثورة بحسب اللوم الذي يُوجَّه إلى الذين لم يقفوا معها فهي أقوى تأثيراً مع بقائهم في الداخل وتهجير أنصار الثورة.
طوال حقبة الأسد عمد إلى فعل المثل؛ إلى تغييب ما قبل الأسدية واعتباره جاهلية بالمقارنة مع أنوار حقبته! نتحدث هنا عن طريقة تفكير، لا نريد أن يُستنتج منها أية مساواة بين الأسد والثورة. والأخيرة، رغم أنها لم تعد قائمة موضوعياً، هي المناط بها أن تتمايز فترفض مبدأ التكفير الذي تُرينا نسخته الإسلامية اقتتال أخوة المنهج، وترينا نسخته الأسدية وجهه الإبادي. ليست الثورات ما يقسم المجتمعات إلى جاهلية وأنوار، وأفضل قدَر لها أن تمدّ قدَماً إلى الأمام وأن تمدّ يداً إلى الوراء؛ إلى الخائفين من السلطة وإلى الخائفين من الثورة عليها.
“المدن”