نقول هذا الكلام على هامش إصدار دار “نلسن”، “الديوان الأخير/ قصائد غير منشورة”، للشاعر اللبناني الوجودي العروبي خليل حاوي، ويتضمن سبع عشرة قصيدة من أرشيف العائلة، أغلبها بخط اليد، لم يسبق أن نشرها حاوي في ديوان. بعضها يقترب من العامية أو اللغة البيضاء، وبعضها الآخر كأنه تداعيات لدواوين الشاعر الأساسية، أو ينهل منها. وأرفق الكتاب بصور للشاعر مع مقالات أو شهادات أتت على هامش الكتاب، وليست في صلبه، وزُيّن برسوم للفنان التشكيلي شوقي شمعون، إضافة الى كلمة الناشر سليمان بختي الذي يقول: “حاولنا دائماً أن نجمع هذه القصائد التي كتبها خليل حاوي في سنواته الأخيرة ولم تسعفنا الظروف ولا الأيام آنذاك. هذه السنة كانت مؤاتية وبهمّة عائلة الشاعر وجهود جمانة حاوي ابنة ايليا، شقيق خليل، بدأ العمل يشقّ طريقه نحو التحقق. جُهّزت القصائد وكان من المأمول أن يكتب الدكتور وجيه فانوس (1948-2022) المقدّمة لها ويحقّق القصائد ويدقّقها”. ويقول بختي: “في اتصالنا الهاتفي الأخير، قبل رحيله بأسبوع، سألني عن المهلة القصوى لإنجاز المقدمة وتحقيق القصائد، فقلت: “حين تنجزها”. رحل وجيه فانوس بعد أيام ولم تزل القصائد معلقة في حاسوبه. قال لجمانة حاوي وعلى طريقته: “حاسس انو الجمعة الجاي رح شوف خليل وإيليا…”. ويضيف بختي: “أروي ذلك كله لأنه جزء لا يتجزأ من قصة الكتاب، ولأقول أن الأقدار تدخّلت وتبدّلت الطرق. واننا استعضنا عن مقدمته(فانوس) بمقالة كتبها في 13 حزيران 2022 في الذكرى الأربعين لوفاة حاوي. وقام بتدقيق القصائد وتحقيقها د.محمود شريح”.
وإن كانت القصائد تستبطن جوانب من أحوال الشاعر الوجودية والنفسية واليومية الوطنية والقومية، فلا يمكن اعتبار أنها تعكس تجربة ما كتب خليل حاوي في سنواته الأخيرة تحديداً، وما كانته أفكاره وانهماكاته، والشكل الذي ترصّده في تجربته الشعرية. فالقصائد أتت في مراحل متباعدة، بعضها يعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي، وبعضها الآخر نظمه الشاعر قبل رحيله بأشهر، في بداية الثمانينيات. بعضها نعرفه من خلال مجلة “الآداب” البيروتية، التي نشرت قصائد غير منشورة من قبل لحاوي في ذكرى رحيله في العام 1992، ثم نُشرت مرة ثانية من ضمن ملف في العام 1996. ثمة قصائد نشرت في مجلة “الأدويسة” (على الهامش، سبق للباحث الراحل ميشال حجا أن نشر مقالة في مجلة العربي الكويتية، تطرق فيه إلى قصائد غير منشورة في ديوان، منها “في بلادهم” المنشورة في مجلة “الآداب” في يناير 1957 – وهي غير منشورة في دواوينه – ويتناول فيها حرب السويس العام 1956 بين مصر من جهة وإسرائيل وفرنسا وبريطانيا من جهة أخرى، وفيها يتنبأ حاول بما سيحلّ بلبنان العام 1975 من حرب أهلية، فيقول:
أيضاً، ليس ورود قصيدة لحاوي بالمحكية اللبنانية، “مفاجأة”. ذلك أن صاحب “الناي والريح”، لمن يعرفه ودرسه سيرته، بدأ ينظم شعر الزجل وينشره في مجلة “العرائس” في مجلة “الدبور”، وقد جمع الباحث الراحل ميشال جحا عدداً من قصائده المنشورة في بداية أربعينيات القرن العشرين. وأصدر الباحث جان داية كتاباً بعنوان “خليل حاوي والشعر الطليق: قصائد عامية مجهولة”، وهو كان يذهب الى ميل الرواد الى الاستفادة من لغة الحياة اليومية، ما يعود الى تأثرهم بجبران الذي كان يعتقد أن العاميات هي “مصدر ما ندعوه فصيحاً من الكلام ومنبت ما نعده بليغاً من البيان”.
إنه لأمر جيد أن تُجمع قصائد حاوي غير المعروفة وتُنشر في ديوان. وهي ربّما تعيد تسليط الضوء على أعماله الأدبية، التي من الصعب أن نجدها في المكتبات، والمرة الأخيرة التي طبعت فيها كانت لدى دار “العودة” في السبعينيات أو الثمانينات.
وقصائد “الديوان الأخير” كانت تلزمها دراسة، تبين الظروف التي كتبت فيها. فقصيدة “يا صبية” التي غناها مارسيل خليفة، يذكر الشاعر عبده وازن في مقالة له في جريدة “الحياة” المحتجبة، أنها نُظمت للكاتبة الراحلة أمينة غصن، فخليل حاوي أستاذها في كلية التربية وزميلها في التدريس في الجامعة الأميركية لاحقاً بعد عودتها من باريس حاملة شهادة الدكتوراه (المتميّزة) من جامعة السوربون، أحبها أيضاً، لكن من بعيد، حباً افلاطونياً، مثالياً، وقد وجد فيها بشائر ربيع كان في حاجة اليه في صحراء عزلته ومرضه العصبي الذي بدأ يرهقه. فكتب لها بضع قصائد، ومنها قصيدة “يا صبية” الشهيرة التي ظلت مجهولة وغير منشورة حتى بعد انتحاره على مشارف الاجتياح الإسرائيلي لمدينته بيروت العام 1982. يضيف عبده وازن: “كنت شخصياً وقعت على هذه القصيدة وسواها بين الأوراق التي وهبني صوراً عنها شقيق الشاعر الناقد إيليا حاوي، عندما كنا نهيء ملفاً عن صاحب “نهر الرماد” في مجلة “تحولات” التي لم يصدر منها في بيروت سوى عددين”.