هل باتت سورية في حالة مجمّدة؟ تقييم اللعبة وفُرص المشاركة

ترجمة: أحمد عيشة

في 14 أيلول/ سبتمبر، أصدر مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بيانًا، يُحذّر من أن “سورية لا تستطيع تحمّل العودة إلى القتال على نطاق أوسع، ولكنها مكانٌ محتمل لتجدّد القتال”. تم تجميد الخطوط الأمامية في سورية منذ آذار/ مارس 2020، وبينما تستمرّ الهجمات عبر الخطوط مع المتمردين، بشكل شبه يومي، انخفض مستوى العنف انخفاضًا كبيرًا، مقارنة بالأعوام السابقة. ومع ذلك، أثار الغزو الروسي لأوكرانيا، في 24 شباط/ فبراير، تكهّنات بأن روسيا قد تسحب قواتها من سورية، إن لم تنسحب بالكامل، مما قد يخلق فراغًا في السيطرة يدفع القوات المتبقية المناهضة للنظام في البلاد إلى التصعيد، وإشعال فتيل قتال جديد واسع النطاق. ومع ذلك، تتجاهل هذه المخاوف من التصعيد التغييراتِ الكبيرة في ميزان القوى داخل سورية، في الأعوام الأخيرة، وتبالغ في تقدير مركزية القوة الروسية، وتقلل من أهمية القوة التركية والأميركية. إن دور روسيا في “تجميد” الصراع اليوم ضئيلٌ، في أحسن الأحوال، حيث إن تركيا والولايات المتحدة هما اللتان ضمنتا الاستقرار النسبي، في الشمالين الغربي والشرقي من سورية على التوالي. يكشف فهم الوضع الحالي لسورية والدور المتطور للجهات الفاعلة الدولية الرئيسة الثلاثة عن خيارات سياسية فريدة، لتعزيز وقف إطلاق النار الحالي، ولتمكين مشاركة أوسع لتحقيق الاستقرار ودعم ملايين السوريين الذين يعيشون خارج سيطرة النظام.

المساهم الأكبر الوحيد في الجمود السوري هو اتفاق وقف إطلاق النار في الشمال الغربي، الذي فرضته تركيا على روسيا، في آذار/ مارس 2020، إذ جمّد الاتفاق آخرَ جبهة رئيسة في البلاد. خلال ما يقرب من ثلاثة أعوام، منذ ذلك الحين، اقتصر القتال على خمس مناطق: 1) هجمات عبر الخطوط بين تركيا وحلفائها السوريين وقوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سورية. 2) قصف وتفجير عبر الخطوط الأمامية على امتداد جبهة إدلب. 3) الاقتتال الداخلي بين المتمردين في شمال غرب سورية، بين فصائل المعارضة المدعومة من تركيا المعروفة باسم الجيش الوطني السوري، وقد شهد في الآونة الأخيرة مشاركة هيئة تحرير الشام. 4) التمرد في جنوب سورية بين النظام والمتمردين السابقين وتنظيم داعش. 5) عمليات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ضد قوات النظام في وسط سورية وضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال الشرقي.

تعريف التصعيد

عندما يتعلق الأمر بالتصعيد المحتمل، تكون هناك بعض المحفّزات الرئيسية. النقطة الأولى، وهي مرجحة، احتمال أن تشن تركيا هجومًا بريًا آخر ضد قوات سوريا الديمقراطية/ قسد، المدعومة من الولايات المتحدة، التي تُعدّ فرعًا لحزب العمال الكردستاني، الجماعة المصنفة إرهابية. منذ صيف عام 2022، أشارت تركيا إلى أنها تعتزم شن هجوم على المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، بالاشتراك مع النظام وإيران، في منطقتي تل رفعت ومنبج، التي أصبحت في الأعوام الأخيرة نقطة انطلاق لهجمات ضد القوات التركية، كما أصبحت منبج أخيرًا مركزًا اقتصاديًا مهمًا للشمال الشرقي. وأفصح رجب طيب أردوغان، الرئيس التركي، في الماضي أيضًا عن رغبته في الاستيلاء على عين العرب (كوباني) التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، لكنّ قرارات أردوغان ومصير الشمال الشرقي لا تحددهما الخطوط الحمراء الروسية.

نقطة الاشتعال الثانية المحتملة هي بين “هيئة تحرير الشام” والنظام في إدلب. ولا يزال خط المواجهة هذا مجمّدًا بسبب الانتشار العسكري التركي من جانب، والكبح الروسي لدمشق من ناحية أخرى. ومع ذلك، يتبادل المتمردون والنظام إطلاق النار بانتظام، على خط المواجهة، حيث يُقتَل مدنيون في إدلب، ومسلحون من الجانبين، كل أسبوع. في غضون ذلك، تواصل روسيا حملة القصف المتقطع لمنازل المدنيين. ولا يزال هناك احتمال بأن يؤدي هجوم كبير من قبل النظام أو من روسيا، في نهاية المطاف، إلى هجوم بري للمتمردين، وعند هذه النقطة، قد يتصاعد القتال، ويخرج عن سيطرة تركيا أو روسيا.

تفتقر حركات التمرد في جنوب ووسط سورية إلى القدرة على تغيير ميزان القوى في هذه المناطق، حتى مع التدخل الروسي الضئيل بالفعل في مواجهتها، ففي جنوب سورية أدى ذلك التدخل في الواقع إلى إحكام سيطرة النظام على المناطق التي كانت في السابق شبه مستقلة. وبالمثل، فإن تمرّد (داعش) في الشمال الشرقي، حيث تضعف تدريجيًا سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، في ريف دير الزور والرقة، يفتقر إلى القوة البشرية والعمق لإحداث انهيار كامل للحوكمة، وخلق فراغ كبير في السيطرة، مثل انسحاب قوات التحالف.

فراغ روسي!

السؤال المركزي هو كيف سيؤثر الغزو الروسي لأوكرانيا في سورية؟ هل يمكن لروسيا الضعيفة أن تشجع عمليات تصعيد جديدة للمعارضة أو لقوات سوريا الديمقراطية، حيث تسعى الجماعات المسلّحة إلى تعزيز مكانتها؟ هناك جانبان متنافسان في اللعبة هنا: ما يمكن للجهات الفاعلة في سورية المختلفة فعلُه، مقابل ما يَعدّون أنفسهم قادرين على فعله.

لم تعُد روسيا بمنزلة حصن عسكري لدمشق، كما كانت من قبل، بعد أن سحبت معظم قواتها المقاتلة من البلاد خلال عامي 2018 و2019. منذ استعادة النظام لجنوب سورية في ربيع 2018، ركّز الروس جهودهم على تدريب وتجهيز وإعادة بناء الجيش العربي السوري على وجه التحديد، بحيث لا تحتاج دمشق إلى تدخل عسكري روسي مباشر في المستقبل. اتبعت جهود إعادة البناء هذه مسارات متعددة، لكن الأهمّ من ذلك أنها أدت إلى تجديد القوات الخاصة التابعة للجيش العربي السوري، والتركيز على بناء مزيد من الوحدات المتنقلة وسريعة الاستجابة المقترنة بدعم مدفعي كبير. خلال هجمات النظام الأخيرة في عام 2019، وأوائل عام 2020، اقتصرت المشاركة الروسية المباشرة إلى حد كبير على توفير الدعم الجوي؛ حيث تركزت جهود روسيا على الإمداد والتخطيط والسيطرة على وحدات النظام المختلفة. بعد ما يقرب من ثلاثة أعوام، منذ ذلك الحين، واصلت روسيا بمنهجية تجهيزَ وتدريب مجموعة من وحدات النظام المتمركزة حول إدلب، بمدفعية (كراسنوبول) الموجهة بالليزر، حيث يشرف الضباط الروس بشكل روتيني على تدريب مدفعية الجيش العربي السوري في المنطقة. في هذه الأوقات، شرعت دمشق منذ عام 2018، في جهود متضافرة لإعادة بناء قوتها الجوية، التي حلّت ببطء محل دور روسيا في الحملة الجوية ضد (داعش) في وسط سورية.

كل هذه التغييرات تجعل خطر انهيار خطوط النظام في شمال غرب سورية أمرًا بعيدًا. قام الروس ودمشق ببناء جدار حماية ناري للنظام حول إدلب. لا يهمّ عدم تصدّي روسيا للفساد المستشري ونقاط الضعف الصارخة في الجيش العربي السوري، عندما تكون دمشق مدعومة في النهاية دعمًا فعليًّا على أرض الواقع، حيث لا يمكن لأي طرف غير قوات سوريا الديمقراطية أن يأمل في مضاهاتها. في حين أن القوات المتمردة ستنجح، بلا شك، في الاستيلاء على بعض الأراضي في هجوم افتراضي، لكن هناك احتمالًا ضئيلًا في الاحتفاظ بنجاحها هذا. وكذلك، فإن أي سيطرة للنظام على الشمال الغربي ستؤدي إلى تمرّد هائل في نطاق أكبر بكثير مما تعانيه دمشق حاليًا، في جنوب ووسط سورية. إن الجيش التركي هو الذي أنهى قدرة النظام على التحليق فوق إدلب، والجيش التركي وحده هو القادر على ضمان ربح المتمردين واستقرارهم في المستقبل.

ولذلك، فإن الخطر الأكبر للتصعيد يأتي من المبالغة في تقدير دمشق أو هيئة تحرير الشام لقوتهما. ربما لا تزال هيئة تحرير الشام تعتقد أن القوة الجوية الروسية هي الوحيدة التي تقف بينها وبين الانتصارات الجديدة، في حين أن دمشق قد تستخفّ بعزم تركيا على منع مزيد من التعديات على إدلب. وإذا اختبر أحد الطرفين هذا الجمود، فسيقع على عاتق تركيا الدور الأكبر في منع دوامة التصعيد.

دور تركيا

إن موقف تركيا هو الأكثر تأثرًا بالحرب في أوكرانيا. دخلت أنقرة وموسكو في توازن دقيق من الخدع والضربات، منذ التدخل الروسي في عام 2015. كان الهجوم التركي لعام 2020 أوّلَ تحوّل جاد في سياسة أنقرة تجاه روسيا، عندما فرضت بالعنف وقف إطلاق النار الذي تفاوض عليه البلدان قبل أعوام، والذي كانت روسيا تتجاهله باستمرار. التكاليف السياسية والمادية لاستمرار تركيا في تطبيق وقف إطلاق النار في شمال غرب البلاد ليست ضئيلة، وعلى رأسها المخاطر واستنزاف الموارد التي يتحملها الجيش التركي، مع حقيقة أن إدلب تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، وهي جماعة مصنّفة إرهابية. ومع ذلك، فإن العامل الوحيد الذي يحفّز على صنع السياسة التركية في شمال غرب سورية هو وقف تدفقات اللاجئين، وهي قضية محلية حساسة لكل من الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة. لذلك لا يمكن أن تسمحَ أنقرة بهجوم للنظام، يمكن أن يدفع ملايين السوريين الآخرين إلى تجاوز الحدود، وليس لديها أيضًا حافز كبير للمخاطرة بأرواح الجنود الأتراك، لمساعدة المتمردين في استعادة الأراضي من النظام.

وبالمثل، فإنّ السياسة الداخلية ومخاوف الأمن القومي المتصورة، وليس القوة الروسية، تُملي العمل العسكري التركي ضد قوات سوريا الديمقراطية أو عدم اتخاذ أي إجراء ضدها. لا تحتاج تركيا إلى ضوء أخضر روسي للاستيلاء على “تل رفعت”، ويشكّل الضغط الروسي عقبة أقل شرق الفرات، حيث تستهدف تركيا بشكل روتيني الخط الرفيع لقوات النظام المتمركزة على طول حدودها مع قوات سوريا الديمقراطية. بدلًا من ذلك، يتأثر صنع القرار التركي في الشمال الشرقي بدرجة أكبر بالضغوط الاقتصادية والسياسية الأميركية، وهجمات قوات سوريا الديمقراطية/ حزب العمال الكردستاني داخل سورية وتركيا. وبالتالي، فإن ما يحدث في أوكرانيا ليس له تأثير يُذكر على خطر التصعيد في الشمال الشرقي. إن الانتخابات التركية المقبلة في منتصف عام 2023، وخطر استمرار ارتباك الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا، هما ما يخلق حالة من عدم اليقين، بخصوص قرارات أردوغان بصدد سورية.

الآثار المترتبة على المشاركة الأجنبية

على الرغم من الجبهات المجمّدة، لا يزال المدنيون في شمال غرب سورية يتعرضون لقصف أسبوعي، من قوات النظام، ويؤدي ذلك إلى نزوح الآلاف كلّ شهر. بينما استخدمت هيئة تحرير الشام الهدوء النسبي لقمع وتفكيك معظم الجماعات الجهادية العابرة للحدود التي تعمل هناك، تركت الظروف الإنسانية المتدهورة فرصة لخلايا (داعش) والقاعدة للاستمرار وإعادة البناء. تعاني المنطقة الشمالية الشرقية المخاطر نفسها، حيث التهديد المستمر بالاجتياح التركي، والمخاوف من انسحاب الولايات المتحدة وعودة النظام، وعثرات الإدارة التي يقودها الأكراد في الأمن والحوكمة، التي عززت بيئة مثالية لـ (داعش) للتجنيد وجمع الأموال والعمل.

توفر كلتا المنطقتين فرصًا فريدة لتحسين الظروف الإنسانية ومعالجة التهديدات المحتملة للأمن القومي لصانعي السياسات الراغبين في التفكير بشكل خلاق في الصراع. يجب السماح لمنظمات المعونة الدولية بالعمل، وتشجيعها على توسيع نطاق عملها بما يتجاوز المساعدات الفورية المنقذة للحياة في إدلب، والاستثمار في أعمال الاستقرار، التي ستوفّر فرص التعليم والعمالة للمدنيين في المنطقة البالغ عددهم ثلاثة ملايين مدني. قد تجد الدول الغربية عوائد مغرية للمشاركة الخاصة مع هيئة تحرير الشام، في موضوعات مختارة، مثل الضغط على المجموعة لاحترام حقوق المجتمع المدني والصحفيين، مع الاستمرار في قمع الجهاديين العابرين للحدود. في غضون ذلك، يشكّل وجود التحالف في شمال شرق سورية حصنًا أساسيًا ضد عودة (داعش)، ومحاولات أنقرة ودمشق للسيطرة على مناطق جديدة من قوات سوريا الديمقراطية. لعبت الضغوط السياسية والاقتصادية الأميركية -وليس الروسية- على أنقرة، دورًا كبيرًا في ردع هجوم جديد، في منبج أو عين العرب (كوباني)، في حين أن اللامبالاة بحملة الطائرات بدون طيار التركية أعطت أنقرة مساحة لإضعاف شبكات قيادة حزب العمال الكردستاني. ومع ذلك، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها استثمار مزيد من الموارد، والاهتمام بالأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تقوّض حملة مكافحة (داعش)، وتؤدي إلى شرخ بين العرب والإدارة التي يقودها الأكراد.

لقد تضاءلت مركزية روسيا، كعامل استقرار رئيس للنظام السوري في الأعوام الأخيرة. ويجب أن يدرك صانعو السياسة أن تركيا وأميركا أصبحتا ضامنتين لشبه الاستقرار في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وأنهما وحدهما من يملك القوة لتعزيز مرونة الاتفاقات الحالية. يجب أن تستمر أميركا في الضغط على أنقرة ضدّ أي هجوم بري، مع العمل معها في نفس الوقت لضمان الحفاظ على وقف إطلاق النار في شمال غرب البلاد، أثناء وبعد انتخابات عام 2023. قد يكون من الصعب اتباع هذه السياسات، لكن تجاهل الأسباب الحقيقية الكامنة وراء “سورية المجمدة” اليوم، وهشاشتها كلّها، يضمن تصعيدًا في المستقبل. بدلًا من الشعور بالرضا عن الذات تجاه الهدوء العام، يجب على الدول الغربية إعادة النظر في اتساع الخيارات المتاحة لديها الآن، من أجل صنع سياسات إبداعية لزيادة الاستقرار في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وتحسين حياة ملايين السوريين.

*- الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي المركز

اسم المقال الأصلي Frozen Syria? Assessing the state of play and opportunities for engagement
الكاتب غريغوري ووترز، Gregory Waters
مكان النشر وتاريخه معهد الشرق الأوسط، MEI، 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022
الرابط http://bit.ly/3EXjAYu
عدد الكلمات 1910
ترجمة وحدة الترجمة/ أحمد عيشة
Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

أبريل 2024
س د ن ث أرب خ ج
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist