في كتابها “السيطرة الغامضة” تحاول “ليزا وادين”، أن تقرأ ما حصل ويحصل في سوريا بطريقة جديدة، فهي تقرّ في أكثر من مكان في كتابها بصعوبة إخضاع الكثير من تفاصيل الواقع السوري، إلى أي من المفاهيم أو المعايير التي أنتجتها البشرية، عبر تجارب شعوبها المتنوعة والمتعددة، وربما تكون محقة في اختيارها قراءة سوريا بطريقة مختلفة، فهذا البلد المتخم بتلاوينه القومية، والدينية، والإثنية، والمتعدد الثقافات والبيئات، والذي يحظى بموقع جيوسياسي جعل منه عبر التاريخ ممراً لجيوش كثيرة، ووضعه تحت الاحتلال فترات طويلة جداً من تاريخه، وكان ولايزال يقول ما يريده الآخرون، أكثر بكثير مما أراد أبناؤه أن يقولوا، وخضع أفراده لمعادلات شديدة التعقيد، أنتجت في محصلتها أفراداً يصعب توقّع ردود أفعالهم، أو يصعب توقّع مواقفهم، كما في مجتمعات أخرى.
هل يمكن أن تشهد البيئات الموالية لنظام الأسد انتقالاً من تأييد النظام ودعمه، إلى الاحتجاج عليه ورفضه؟ كثيراً ما سألت هذا السؤال لنفسي، ولآخرين، وكثيراً ما تعرضت له، وفي كل محاولات الإجابة، كانت إشارة الاستفهام تبقى معلقة مثل جبل بلا أي إجابة.
من الطبيعي أن تصعب الإجابة على هذا السؤال، فبعد عشر سنوات من الأسئلة العميقة التي طرحتها الثورة السورية على كل السوريين ومن بينهم هذه البيئات، فإن الإجابة لم تتبدل كثيراً، وبقيت تحت عنوانها العريض المؤيد أو الداعم، وبالتالي يصبح القول إن انتظار تغيير عميق يقلب الإجابة إلى اتجاه آخر، قد يكون أقرب للوهم، لكن سرعان ما يتبادر للذهن أن انعدام الحد الأدنى من مقومات الحياة، وانغلاق الأفق تماماً، قد يدفع لانقلاب حقيقي في موقفها.
لم يكن لكل من وقفوا مع الثورة دوافعهم المشتركة، وكذلك العكس صحيح بالنسبة لمن وقفوا ضدها أيضاً، وإن كانت هناك مساحة يتقاطع بها حملة كل موقف
بتحديدنا للعوامل التي أدّت إلى انفجار الثورة السورية، يُمكننا مقاربة الإجابة الى حد معقول، لكن لا بدّ هنا من الإشارة إلى أن الاستناد إلى التحليل السائد حول أسباب التباين في الموقف مما جرى، قد يوقعنا في مطبات كثيرة، فليست الهوية الطائفية أو القومية هي حجر الأساس في هذا التباين، رغم حضورها القوي، لكن تشبيك هذه الهويات مع عوامل أخرى سياسية وثقافية، واقتصادية، وفهم بنية النظام والدولة وصيغة علاقتهما بالمجتمع، يتيح لنا أن نتلمّس الكثير من الإجابات، التي لاتزال عالقة في المشهد السوري.
بعبارة أخرى، لم يكن لكل من وقفوا مع الثورة دوافعهم المشتركة، وكذلك العكس صحيح بالنسبة لمن وقفوا ضدها أيضاً، وإن كانت هناك مساحة يتقاطع بها حملة كل موقف، هذا يدفعنا للبحث بشكل أعمق، وعدم الركون للتفسير السائد، أو بصيغة أخرى، علينا البحث عمّا هو أكثر عمقاً من الإجابات السهلة التي نتداولها عند نقاشنا حول تفسير الأمر.
في سعيه لتفتيت النسيج السوري، لم يستند النظام خلال عقود حكمه إلى العوامل الطائفية، والعشائرية، والمناطقية، والقومية والإثنية فقط، بل أضاف إليها عوامل اقتصادية، واجتماعية وسياسية، وعزّزها كلّها بأجهزة قمع تبطش بشدة بكل سهولة، وبلا أي مساءلة أو محاسبة، واستطاع بعد سنوات أن ينتج، وأن يوظف ما يمكن تسميته بالقمع الذاتي، والذي يمكن توضيحه على النحو التالي:
بعد سنوات من وصوله الى السلطة، وتحديداً بعد صراعه مع حركة الإخوان المسلمين، رسّخ حافظ الأسد آليات رقابة صارمة، يمارسها أفراد كثر في المجتمع على أنفسهم وعلى الآخرين، دون أن يطلب منهم ذلك، هذه الرقابة الذاتية، كانت محاولة من القائمين بها حماية أنفسهم بالدرجة الأولى، بعد معاينتهم لمدى وحشية العقاب الذي يتعرض له، من يشتبه بمعارضته للنظام، هذا الخوف من العقاب، خلق أفرادا مستسلمين حتى لو لم يتلقوا العقاب بشكل مباشر، لكن توقّعهم له، هو ما دفعهم للتماهي مع الجهة القامعة ولعب دورها.
أيضاً – وكما فعل هتلر – فقد عزّز حافظ الأسد من خنوع المجتمع وإرهابه، عبر استعراض حشود ضخمة مسيّرة، وترفع شعاراتها المتحدية، وكأنه يرهب بها من لا ينخرطون بها، كل هذا ترافق مع سعار إعلامي مدروس، وممنهج، يضخ يومياً ويعلي من قوة وقداسة الحاكم، وأصبحت صوره وتماثيله المنتشرة في كل الأمكنة، تقوم بتخويف وإرهاب المجتمع.
تفاوت حضور القمع الذاتي بين تصنيفات المجتمع السوري، وهو انتهى فعلياً في البيئات التي ثارت على النظام، لكنه لايزال حاضراً في البيئات الموالية
لم تلعب آليات القمع الذاتي التي رسّخها حافظ الأسد بعد وصوله إلى السلطة، دوراً قمعيا فقط، بل أتاحت له فسحة تجميل وجه نظامه القمعي بقوانين غير قمعية، وحتى بأن يظهر كنظام ديمقراطي، فلديه تحالف سياسي يقود البلاد (الجبهة الوطنية التقدمية)، ولديه دستور يحترم حق الأفراد في التعبير والرأي، وتأسيس الأحزاب و..و… الخ، لكن الإرهاب الشديد الذي تم ضخه في حياة السوريين، وسكن تفاصيل حياتهم اليومية، جعل من كل هذه القوانين أو المظاهر مجرد كلام بلا أي معنى، لا بل أصبحت هذه القوانين والمظاهر التي تدعم الديمقراطية، وحرية الفرد أداة أخرى من أدوات القمع، وراح السوريون المعارضون للنظام والذين قمعوا بوحشية، يتهمون من قبل سوريين آخرين بأن العمل المعارض مسموح بالقانون، فأنتم سجنتم أو قمعتم ليس لأن النظام قمعي وديكتاتوري، بل لأنكم خرقتم القانون.
تفاوت حضور القمع الذاتي بين تصنيفات المجتمع السوري، وهو انتهى فعلياً في البيئات التي ثارت على النظام، لكنه لايزال حاضراً في البيئات الموالية، ولايزال خوف الناس من بعضهم قائماً، لكنه يتهاوى شيئاً فشيئاً، رغم محاولة النظام تعزيزه والإبقاء عليه، يضاف إلى ذلك ما هو جدير بالتوقف عنده، فالتباين الذي قسم السوريين في بدايات الثورة، تقلصت حدوده وأسبابه كثيراً، بعد عشر سنوات من عمر الثورة، والأشخاص الذين مارسوا قمع الآخرين واستباحتهم، أدرك معظمهم أنهم كانوا مجرد أدوات استعملها النظام بلا مقابل، وعليه فإن الحلقة الأخيرة التي تقيد القسم الأكبر من الموالين، وتمنعهم من إطلاق صرختهم إنما تكمن في إحساسهم، أو في امتلاكهم ليقين الجدوى من صرختهم.
- كتاب “السيطرة الغامضة”، تأليف “ليزا وادين”، صادر عن دار الريس للكتب والنشر 2010، ترجمة نجيب الغضبان.
“تلفزيون سوريا”