بعد عام على رحيل المخرج السوري اللامع بسام الملا في الثاني والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2022، لا شك في أن الكثيرين ممن أحبوا أعماله وتابعوها، ومازالوا يتابعونها على موقع الفيديو الشهير (يوتيوب) حيث تحقق ملايين المشاهدات تصاعدياً، يطرحون سؤالا عن مصير دراما البيئة الشامية بعد رحيل بسام الملا؟ فمن سيحمل لواء الإيمان بمفردات الحارة الدمشقية وقيمها؟ وهل ينجح مثلا شقيقه المخرج الموهوب مؤمن الملا في أن يتابع هذه المدرسة الإخراجية في تناول البيئة، وهو الذي قدم نموذجا موازيا وجيدا لها في مسلسله الأضخم (الزعيم) عام 2011؟ أم أنها ستصبح نهبا للفوضى والعبث، كما حدث على يدي المنتج الأمي محمد قبنض حين انتزع مشروع «باب الحارة» من بسام الملا في حياته، كي يعيث فيه فسادا وتدميرا أكثر مما تعرض له من تصدعات وشروخ مدمرة في الأجزاء الأخيرة التي أشرف عليها بسام واستعان بمخرجين شباب كي ينفذوها بسبب وضعه الصحي الحرج.
دراما البدايات التأسيسية
قبل أن نجيب على هذا التساؤل لا بد، للإنصاف التاريخي، من التوضيح أن دراما البيئة الدمشقية لم تولد على يدي بسام الملا، ولعل من يعرف تاريخ الدراما الإذاعية والتلفزيونية السورية يدرك أن هذه الدراما ولدت على يدي أبي الدراما الإذاعية القصاص الشعبي حكمت محسن، في تمثيلياته الذائعة الصيت في خمسينيات القرن العشرين التي كان يخرجها الممثل والمخرج الإذاعي اللامع تيسير السعدي، ومن مفردات هذه الدراما وعبق الحارة الدمشقية، انطلق دريد لحام ونهاد قلعي في أعمالهما التلفزيونية التي أنتجها التلفزيون السوري في ستينيات القرن العشرين (مقالب غوار، حمام الهنا) وفي عملهما المدوي «صح النوم» الذي كان باكورة إنتاج القطاع التلفزيوني الخاص في سبعينيات القرن العشرين، بتوقيع نهاد قلعي كاتبا وخلدون المالح مخرجاً، وعبر جزأين ألحقا بتمثيلية «ملح وسكر» التي لا تقل سحرا في أجوائها عن «صح النوم» نفسه.
استمرت دراما البيئة الدمشقية في الكوميديا، كما في الدراما الاجتماعية.. وفي كلا اللونين كانت إطارا نقديا لتشريح المجتمع الدمشقي ونقد مفاهيمه، سواء جاء ذلك بحب من قبل عشاقها، كما فعل محمد الماغوط وغسان جبري في «حكايا الليل» أو عادل أبو شنب وعلاء الدين كوكش في «حارة القصر» أو خيري الذهبي وغسان جبري في «لك يا شام» أو مأمون البني ورفيق الصبان في «نساء بلا أجنحة» أو جاء ذلك بحس نقدي خال من العاطفة والانتماء للمكان وجمالياته كما في مسلسل «دائرة النار» لهاني السعدي وممدوح عدوان تأليفا وهيثم حقي إخراجاً، أو عبر رؤى سياسية مضطربة ومشوشة تاريخيا واجتماعياً، كما فعل فؤاد شربجي في «أبو كامل» لكنها في كل هذه النماذج وسواها، كانت دمشق وبيئتها إطارا اجتماعياً للنقد والتشريح، وربما التجريح أحياناً.
ما قدمه بسام الملا كان مختلفا عن كل هذا السياق، كان محاولة لاستعادة دمشق التي تهمش وتشوه وتسرق من أهلها، بفعل نظام سياسي أقلوي همجي، لم يعن له إرث المدينة وذكريات أهلها شيئاً وتراثها المعماري وروح الحياة فيها شيئا أمام شهوة إخضاعها وإذلال أهلها، والثأر من روحها المحافظة التي لا تشبهه ولا يحبها، ثم التغني الأجوف بمكانتها التاريخية.
صرخة حنين وطوفان تفاصيل
استطاع بسام الملا أن يوقظ الحنين إلى دمشق التي كانت تسرق منا أمام أعيننا. كان عمله الشامي الأول «أيام شامية» صرخة حنين مدوية فاجأ نجاحها الجميع، إنه الحنين لماض لا معنى له في الذاكرة والوجدان بلا شحنة القيم المثالية العالية، وبلا تلك المواقف الميلودرامية الشعبية التي كان يوليها بسام الملا عناية خاصة في المعالجة الإخراجية والبنية المشهدية والموسيقى التصويرية، كي تغدو (ماستر سين) ولا تمر مرور الكرام. ماض لا معنى له أيضا بلا تلك الإكسسوارات والتذكارات، وهذا الطوفان الهائل من التفاصيل المنضبطة التي تشكل صورته الأثيرة. وكان «الخوالي» أهم عمل في تاريخ الدراما السورية لتوثيق رحلة الحج الشامي، بكل تنوعها الإثني الذي كانت حاضنته دمشق، وبكل غناها العاطفي والديني الذي كان يضفي على تلك الرحلة الشاقة جوا من السحر الأسطوري، الذي قاربه بسام الملا روحا وصورة لأنه كان يحترمه، بخلاف مثقفي اليسار، الذين يمكن أن يصوروه بلا إيمان فيظهر على الشاشة مزيفا ومفتعلا. وكان «ليالي الصالحية» محاولة لإشاعة الطمأنينة في ذاكرة الماضي الذي يستعيد حكاياته ضمن النسق القيمي ذاته. وجاء «باب الحارة» بجزأيه الأول والثاني ليقدم دراما شعبية حكائية مشغولة بحب وإتقان، ومباراة تمثيلية عالية بين نخبة من أفضل فناني سوريا، قبل أن يصبح هذا العمل الرائع، الذي يعلي حس المسؤولية الاجتماعية، والمبادرة الأهلية للناس بعيدا عن سلطة الدولة، ضحية نجاحه المدوي الذي أدخلته في متاهة التجاذبات والتشوهات والفبركات والرغبات الإنتاجية والتسويقية لـ«أم بي سي» وغيرها.
قبل بسام الملا لم يكن الحنين إلى دمشق قضية في الدراما. كانت الأعمال التي تتناول دمشق تقدم رؤية نقدية مثقفة حينا ومتثاقفة حينا آخر لمجتمع دمشق من قبل آخرين كارهين لهذا المجتمع ولا يريدون فهم طبيعته، واحترام خصوصيته التي حفرت فرادة دمشق في التاريخ. بسام جعل دمشق بحد ذاتها قضية، الزمن، العادات، الطقوس، المطبخ، السطوة الاجتماعية للمجتمع الأبوي، القسوة والحنان، المصلحة والإيثار، جماليات المكان، إكسسواراته، ذلك العالم المشحون بالحياة والأمل والغياب في ظل نظام همجي داس القيم وأذكى المناطقية وشوه المكان، وجعل من الحارة هيكلا عظيما، كل هذا قدمه بسام بصدق وإحساس ومعرفة، وكأنه كان يهجو نظاماً داس دمشق تحت البسطار العسكري والطائفي، والأهم أنه استطاع أن يجعل من مفردات الماضي هذه، ماركة متداولة عربيا، وقادرة على المنافسة إنتاجياً، وحاملاً من حوامل الهوية السورية في زمن التشرد والاغتراب.
حضور تجاري جاذب
يمكن ملاحظة أيضا أن مفردات البيئة الدمشقية التي قدمها بسام الملا، فرضت حضورها التجاري في أسماء المطاعم والمتاجر السورية على امتداد توزع السوريين خارج جغرافية وطنهم، عشرات المطاعم والمتاجر تحمل أسماء هذه الأعمال وتضع على مدار الوقت مقاطع من هذه المسلسلات على شاشات ضخمة، كي تكمل عناصر الهوية التي يحققها الديكور في المكان. هذا الحضور التجاري هو تأكيد لنجاح فني استطاع أن يسكن الوجدان الشعبي، ويصبح عاملا من عوامل الجذب بالنسبة له، تأكيدا لمفردات مدرسة إخراجية حيوية في أدائها، صادقة في تصوير ما تؤمن به، باحثة عن فسحة تأثير قيمي في وجدان طبقة شعبية واسعة، ما تزال تجد في تلك القيم معنى من معاني وجودها. صحيح أن دمشق ليست هي ما قدمه بسام في مسلسلاته فقط، وهي أغنى وأوسع، وفي صورتها الشعبية على اتساعها، هناك اجتزاء مخل أحياناً، لكن ما قدمه كان جزءا أصيلا من نبضها، ومن عنوان الحياة فيها. ومن صورتها الشعبية الموثقة التي قد لا ترضي بقايا مجتمع دمشق البورجوازي المنسلخ عن مجتمع الحارة التي خرج منها.
استمرار المحاكاة الفاشلة
رحل بسام الملا مسكونا بأمراضه وآلامه وغربته، لكنه ترك للأجيال إرثا تلفزيونيا لن يُمحى، لأنه يمتلك من مهارة الصنعة، والجاذبية الفنية والانتماء الاجتماعي ما لن يتجاوزه الزمن. ولهذا ستستمر مدرسة البيئة الدمشقية المسكونة بالحنين وبمفردات الحياة الشعبية ونماذجها قائمة، لكن بتشوهات نافرة ومحاولة محاكاة فاشلة، وشهوة تفوق محكوم عليها بالفشل، كما رأينا في أعمال بائسة مثل «بروكار» لرضوان رجب، و»الكندوش» لسمير حسين.
رحل بسام الملا كأمل سوري ضائع، كطاقة بددها الشتات السوري، كشفق حزين ومكلوم ومستغرق في وحشته. وأذكر أنني حين زرته في دبي قبل عامين من رحيله صدمت لحجم التعب والمرض الذي يعيشه، ولمحاولة ذلك الذهن الوقاد أن يبقى حيا يقظا وهو يتحدث بصعوبة، ثم وهو يعود بصعوبة وحيدا ليدفن في دمشق، التي لم تخرج في وداعه كما يجب.. فقد كنا جميعا غائبين، نرقب صور العزاء من وراء الشاشات، وطيف دمشق التي استعادها بإخلاص في أعماله الباقية طويلا في تاريخ الفن السوري.
كاتب سوري
“القدس العربي”