تثير كل إطلالة جديدة للفنان ياسر العظمة كثيراً من الجدل بين السوريين، وهو جدل سياسي على الأغلب، ويتعلّق بموقف العظمة من النظام السوري، وكذلك موقعه فيه. هل عمل صاحب «مرايا» الذي اعتُبر دائماً مسلسلاً «ناقداً» على «التنفيس» عن السوريين الذين يعانون من الاستبداد؟ أم ابتذل السخرية والتهكّم ليحولهما إلى أداة من أدوات السلطة؟ ما موقفه فعلاً من الثورة السورية؟ لماذا لم يتكلّم بوضوح؟
ربما كان معظم هذه الأسئلة زائداً عن المطلوب في ما يتعلّق بياسر العظمة. ينسى كثيرون أن أشهر إطلالته الأولى كانت في مسرحيات مثل «غربة» و«ضيعة تشرين» (التي تُنسب لـ«ناقد» آخر هو محمد الماغوط) وهي أعمال شديدة الأدلجة البعثية، تنتهي دائماً بفلاحين سوريين يرقصون ويدبكون فرحاً بحركة حافظ الأسد «التصحيحية». العظمة لم يدّع يوماً أنه معارض، أو حتى ساخر من السلطة، بل أكد دائماً أنه مجرد ممثل يمارس «النقد البنّاء» ويحاول الإشارة للسلبيات التي يرتكبها «البعض» من الفاسدين وضعاف النفوس. يمكن القول إنه كان بوعي، جانباً مما يمكن تسميته «الأيديولوجيا السورية» وهي أوسع قليلاً من أيديولوجيا البعث، اندرج فيها، طوعاً أو كُرهاً، معظم فئات السوريين أياً كانت ميولهم السياسية، يسارية أو قومية أو حتى إسلامية، منذ مجزرة حماة في أوائل الثمانينيات على الأقل. وهي أيديولوجيا يمكن تلخيصها بعدة مقولات، مثل تحرير الأرض؛ المطالبة بدور حمائي ورعائي للدولة؛ الحذر من التأثيرات الخارجية؛ الموقف الاجتماعي المحافظ جداً، والرافض للإسلام السياسي الحركي في الوقت نفسه؛ الميل القومي العربي، إلخ.
نقد العظمة انطلاقاً من معاداة هذه المقولات هو نقد أيديولوجي أساساً، ويُحمّله مسؤوليات تاريخية أكبر منه بكثير، فهو لم يخترع تلك الأيديولوجيا، والأهم أنه يضيّع رؤية المحتوى الفني لعمله عموماً. ربما يجب التوقّف عن محاكمته سياسياً، وكذلك الكف عن فهمه بالعلاقة مع مقولة «الاستبداد» وهي فضلاً عن كونها مقولة أقرب للبلاغة، ويكاد لا يكون لها أي معنى من زاوية النظرية السياسية، تحمل أحكام قيمة مسبقة، لا يمكن معها فهم أو تحليل عمل فني مثل «مرايا» أثّر في أجيال من السوريين منذ عام 1982 وحتى موسمه الأخير عام 2013. عندما سمحت الظروف للعظمة بأن يخرج من «ضيعة تشرين» ويعود إلى المدينة، مدينته، قرر أن يروي ما اعتبره «حكايات الشام» و»الشام» هنا تعني دمشق، وليس بلاد الشام كلها مثلاً. ما قد يجعل الأسئلة الأفضل عن «الحكايات» وعن «الشام» نفسها: كيف روى الكوميديان السوري الأهم حكاياته؟ وماذا تقول تلك الحكايات عن دمشق، وربما التمدّن السوري كله؟
كاريكاتير اللغة
تبدو حكايات العظمة مألوفة ومعروفة جداً، ولدرجة تثير ملل البعض. مَن يبحث عن الجديد والإدهاش فيها لن يجد ضالته، إلا أن «الجديد» ربما لم يكن ما يعني صاحب «مرايا» فهو يؤكد، في الشارة الأولى لكثير من مواسمها، أن ما يقدّمه «مما قرأ وسمع وشاهد» أي أنه يقوم أساساً بعملية «إعادة سرد» لما هو متداول. وشعور الألفة مع حكاياه أساسي جداً في كل عمله الفني. يبني العظمة إعادة سرده للقصص الشعبية، أو المقتبسة من الأدب العالمي، على كثير من العناصر الأسلوبية المعقدة، خاصة على المستويات اللغوية والأدائية والحركية، المستوحاة من تراث طويل لـ«الحكي» الدمشقي: نكات المشايخ؛ الخطابة المنبرية؛ ثرثرة المقاهي الذكورية ومجالس الضيافة النسائية؛ أساليب الحكواتيه، بسجعها وتركيزها على ألفاظ ونبرات ومقاطع صوتية معيّنة؛ الحركات والإيماءات المبالغ فيها للزعران والقبضايات والنساء في البيئات الشعبية.
إلا أن مرايا العظمة ليست عاكسة لكل هذا بشفافية، بل تقدّم تلك الأداءات، القائمة على المبالغة أصلاً، بمزيد من المبالغة، ما يجعلها أقرب لفن الكاريكاتير بالمعنى الكلاسيكي. على المستوى اللغوي اصطنع العظمة لهجتين خاصتين به. يمكن تسمية الأولى «الدمشقية الكاريكاتيرية»؛ والثانية «المحاكاة الريفية» وفي كليهما حاول أن يجعل اللغة المتداولة، بكل ما تحمله من دلالات ثقافية واجتماعية، مادة للإضحاك. لم يلجأ إلى السجع والمحسّنات اللفظية، بغرض تثبيت دلالات ومعانٍ معيّنة، بل لجعل اللغة محاكاة ساخرة عن نفسها. من خلال لهجته الدمشقية الساخرة سعى العظمة لجعل أبطاله يُدون تناقضاتهم ومفارقاتهم بمجرد النطق. أما في اللهجة الريفية التي اصطنعها، وهي مزيح من لهجات ريف دمشق والسويداء، ولا تتطابق مع أي لهجة ريفية معروفة، فحاول أن يُظهر كل العناصر الطريفة في صورة «الضيعجي» لدى أبناء المدينة، من شهامة وسذاجة وبساطة. قد لا يكون هذا متماشياً مع معايير الصواب السياسي السائدة حالياً، لكنه راق لكثيرين في ما مضى، بمن فيهم الدمشقيون والريفيون.
عالم ياسر العظمة غَرِق، ليس فقط لأنه غادر سوريا، بل لأن «دمشق» التي استمد حكاياته منها، لم تعد موجودة ببساطة. ربما يكون هو أول من أدرك هذا، بذكائه المعهود، ولذلك نراه الآن يعود على وسائل التواصل الاجتماعي، ليروي حكايات لا يستمدها «مما قرأ وسمع وشاهد» لكن من الذاكرة فقط.
أراد العظمة غالباً أن يرى الناس انعكاساتهم المضخّمة أو المقعّرة في مراياه، ويضحكوا عليها، وقد كان. تظهر هذه المحاكاة أيضاً في الأداء التمثيلي والحركي، المبالغ فيه عمداً. أبطال «مرايا» لا يندمجون بشخصياتهم المكتوبة، بل يحتفظون بمسافة واضحة عنها، تُظهرها أداءاتهم الكاريكاتيرية، وبروز جانب من أوجه شخصياتهم «الحقيقية». عندما نرى العظمة في دور والٍ عثماني، أو هالة حسني وسامية الجزائري في أدوار الحموات الشرسات، أو حسن دكاك في دور الشرطي، نعرف جيداً أننا لن نرى تجسيداً «صحيحاً» لتلك النماذج، بل أولئك الممثلين أنفسهم وهم يرتدون أقنعة. لدرجة أننا كثيراً ما ننسى أسماء الشخصيات المُؤدّاة، ونتذكّر فقط أسماء الممثلين. لكنْ، مَن العظمة وحسني والجزائري ودكاك إن لم يكونوا فعلاً، وفي «حقيقتهم» خارج المسلسل، تلك الشخصيات المضحكة نفسها؟ لعبة المرايا المعقدة هذه، بكل ما تحويه من تكرار للأوجه والحركات والألفاظ؛ ومطابقة غير تامة بين الموضوع (وهو هنا القصة والموقف والشخصية) والمحمول (السرد والأداء والممثل)؛ وعمليات تحوير وتضخيم وإبراز أو إخفاء، هي ما جعل مسلسل العظمة أحد أكثر الظواهر الفنية نجاحاً في عصره، وهي لعبة ليست بالسهولة التي يتخيّلها البعض.
هل يمكن اعتبار «مرايا» توثيقاً ساخراً لتراث السرد والأداء الدمشقي؟ إلى حد كبير، لكن حتى هذا لم يكن الهاجس الأول للعظمة. في نهاية لوحاته التمثيلية يكسر عادة الجدار الرابع، يخاطب المشاهدين مباشرة، مع نظرة وابتسامة متواطئة، وكأنه يقول: «أنتم تفهمونني جيداً.. أليس كذلك؟». هذا «الفهم» المتواطئ وشديد الترسّخ اجتماعياً هو لعبة ياسر العظمة.
أن تكون محافظاً
لكن عَلامَ «تواطأ» العظمة مع جمهوره؟ يمكن الإجابة بسرعة أنه تواطؤ على مجموعة قيم محافظة جداً، اجتماعياً وجنسانياً وسياسياً ودينياً؛ وكذلك على سلسلة مما يمكن تسميته «أساليب النجاة» الضرورية للحياة في سوريا ذاك الزمان. يساهم الضحك في الحفاظ على تماسك تلك القيم والأساليب، وجعلها أكثر استساغة وقبولاً، أي الحفاظ على تماسك البنية الاجتماعية نفسها، عبر كل الظروف العصيبة التي عاشتها في ثلاثة عقود من الزمن.
كان ياسر العظمة الأكثر محافظة في الإنتاج الفني السوري، ربما لا يتفوّق عليه بذلك إلا معدّو البرامج الدينية. جمع كل القيم، التي رآها صحيحة، وقدّمها بوصفها «الشام» وسط كل مفارقاتها وصراعاتها. ومَن أقدر من دمشق والدمشقيين على الحفاظ على قيم البلد كله! إنها المدينة التي يمكنها أن تكون «منفتحة» لكن على مضض؛ المعزولة عن العالم، لكن بادعاءات كبيرة عن الذات والتاريخ؛ الرثة في بنيتها التحتية ومعدلات نموها الاقتصادي، لكن القادرة على مراكمة شيء من الثروة. تلك هي المدنيّة المحافظة التي مثّلها العظمة، والتي ربما كان من الأفضل دراسة اندماجها البنيوي في النظام والدولة السورية، لا محاسبة ابنها البار الظريف.
العالم الغارق
توقّف العظمة عن إنتاج «مرايا» فعلياً منذ عام 2011. الموسم الأخير منها عام 2013 تم تصويره في الجزائر، وربما لأجل الجمهور الجزائري فقط، حاول مؤخراً أن ينتج مسلسلاً وسط ناطحات السحاب في الخليج العربي، لكنه فشل، بشهادة معظم من شاركوا به. عالم ياسر العظمة غَرِق، ليس فقط لأنه غادر سوريا، بل لأن «دمشق» التي استمد حكاياته منها، لم تعد موجودة ببساطة. ربما يكون هو أول من أدرك هذا، بذكائه المعهود، ولذلك نراه الآن يعود على وسائل التواصل الاجتماعي، ليروي حكايات لا يستمدها «مما قرأ وسمع وشاهد» لكن من الذاكرة فقط. تثير الحنين لدى كثيرين، والسخط لدى آخرين. بهذا يرجع العظمة اليوم ليؤدي دور شخصيته «الحقيقية» بوصفه شيخاً للنوستالجيا السورية، ودون أقنعة الشخصيات التي كان يرتديها. وربما لا يختلف قوله الحالي كثيراً عما كرره، من وراء قناع، منذ الثمانينيات. إلا أن وظيفة التكرار تختلف اليوم، لم يعد الهدف «الحفاظ» على مجتمع ما، تفكك منذ عقد من الزمن على الأقل، بل صار أشبه بموجات صوتية مُسكّنة، يتعاطاها كثيرون في شتاتهم، أو في بلدهم الذي لم يعد في إمكانهم التعرّف عليه.
كاتب سوري
“القدس العربي”