ظن البعض ، وفق تحليل سياسي متفائل ومنطقي للأحداث والوقائع ، أن المرحلة الجديدة التي تمر بها المنطقة ، وما استوجبته من مناخات للتهدئة والمصالحة والتسوية ، ربما تحمل إلى الداخل السوري مناخات مشابهة ، تتماشى مع الآفاق الجديدة التي يؤمل أن تفتح أمام التطورات الإقليمية والدولية ، وتقتضيها المصلحة الوطنية للبلاد . وكان يؤمل أيضاً من سياسة الحوار والانفتاح التي تسم العلاقات السورية في محيطها العربي ومع القوى الإقليمية الفاعلة هذه الأيام أن تنعكس إيجابياً على الوضع الداخلي ، فتخفف من حدة التوتر " الأمني " لدى السلطة ، وتحد من نزوعها المعروف والمستمر نحو استعمال العصا الغليظة مع المجتمع وقواه السياسية المعارضة . إذ تزيل مبررات القلق عند النظام وتوسل القمع وحده في إدارة شؤون البلاد لدى السلطويين فيه .
تستند هذه الرؤية إلى مقولة مفعمة بالكثير من الحكمة والمنطق مفادها " إذا كانت أجواء التهدئة والحوار مع الآخرين في الخارج – حتى ولو كانوا أخصاماً ومعادين – مطلوبة ، فبالأحرى أن تكون ضرورية مع أبناء الوطن " . والعقل يعلو ولا يعلى عليه . والسياسات العقلانية والمتعقلة لا يستطيع أي مكابر أن يتجاهلها أو يتجنب سطوتها .
ولأن " الماء يكذب الغطاس " ، فقد جاء اعتقال المحامي مهند الحسني أصدق أنباء من التوقعات والتحليلات ، وليقول بالفم الملآن " الوضع على حاله " . لا شيء جديد في جعبة النظام في جميع الأحوال ، فالاعتقالات مستمرة والمحاكمات مستمرة .
بعد استدعاء متكرر من قبل فروع الأمن وأجهزته المختلفة ، اعتقلت السلطات يوم الثلاثاء 28 / 7 / 2009 المحامي مهند الحسني رئيس المنظمة السورية لحقوق الإنسان منذ عام 2004 عام تأسيسها . وحولته بالسرعة القصوى إلى سجن عدرا المركزي تمهيداً لمحاكمته . وليس من الضروري أن يسأل أحد عن التهم الموجهة للرجل ، ولا عن " الذنب " الذي اقترفه وكان سبباً مباشراً أو عذراً واهياً استندت إليه الأجهزة لاعتقاله . فيكفي أن يكون محامياً حقيقياً ، يتزيا قلباً وقالباً برجل القانون الذي يحترم مهنته ويمارس مسؤولياتها ، ويحب وطنه ومواطنيه ويتجند للدفاع عنهم بحماسة واندفاع قل نظيرهما . فما بالك إذا كان صاحب مشروع حقوقي وقانوني أراده عبر تأسيس وإدارة منظمة تعمل على تثبيت حقوق الإنسان ورعايتها والدفاع عنها في بلاد تحظر كلياً نشاطات كهذه ، وتتغول فيها السلطة القمعية على كل شيء . فتحيل القوانين إلى نصوص حبيسة الرفوف والأدراج ، وتضع حقوق المواطنين رهن إرادة الحاكم العرفي ومن يسلطهم على مصالح الناس وحرياتهم وحياتهم أيضاً .
لن يقع النظام في حيرة من أمره حيال فبركة التهم لناشط حقوقي من وزن المحامي مهند الحسني ، ابن دمشق البار وسليل محترفين كبار في النضال السياسي والثقافة القانونية والعمل الوطني العام ، لأن قائمة التهم جاهزة ، تلك التي أصبحت " ستاندر " يوجهها لكل معارض من القوى السياسية والاجتماعية والثقافية . وها هو اليوم يوجهها للمحامين عندما يمارسون مهنتهم بشرف ومسؤولية ، ونشطاء حقوق الإنسان عندما يقومون بواجباتهم الوطنية والإنسانية نحو مجتمعهم . تمثلهم اليوم وردة دمشقية أخرى ، تنضم إلى الباقة الجميلة في سجن عدرا .
وكي يعطي النظام للوضع خصوصيته ، حرض نقابة المحامين بدمشق كي تستكمل حلقات الاضطهاد والتعسف بحق أحد أعضائها البارزين ( عوضاً عن الوقوف إلى جانبه والدفاع عنه ) ، فعقد مجلس النقابة جلسة محاكمة مسلكية للنظر بالدعوى التي حركتها ضده نقابة المحامين عملاً بأحكام قانون تنظيم المهنة رقم 39 لعام 1981 . هذا القانون وغيره فرضته السلطة على النقابات المهنية مطلع الثمانينات من القرن الماضي ، بعد أن حلت النقابات وغيرت بنيانها التنظيمي والقانوني والمهني .
تقول النقابة أنها تحاكم المحامي الحسني على تصرفاته لأنها " تشكل مخالفة لقانون مهنة المحاماة ونظامها الداخلي ، وتمس كرامة المهنة وشرفها وتقاليدها وقدرها " وهي " زلة مسلكية " . وللذين لا يعرفون " الزلات المسلكية " التي يقوم بها داعية حقوق الإنسان المحامي مهند الحسني منذ سنوات ، و " يقترفها " بشكل علني وبحماسة يحسد عليها ، وهو مرفوع الرأس عالي الجبين ، يستحق عليها كل تقدير واحترام ، نقدم بعض الأمثلة :
– ترؤس وإدارة جمعية حقوقية تتابع انتهاكات حقوق الإنسان في سورية ، وتدافع عن ضحايا القمع والاضطهاد أينما وجدوا .
– الحضور الدائم لجلسات محكمة أمن الدولة العليا ( سيئة السمعة ) ، ومتابعة قضايا الموقوفين فيها بغض النظر عن انتماءالتهم واتجاهاتهم والتهم الموجهة إليهم ، دون توخي أي مصالح خاصة .
– نشر تقارير دورية عن أوضاع حقوق الإنسان في سورية ، ورصد أوضاعها التي تتردى باستمرار بالجرأة اللازمة والتوثيق الدقيق المسؤول .
– الاشتراك مع المحامين الآخرين والجمعيات والمنظمات المثيلة في متابعة أوضاع المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي والدفاع عنهم ومتابعة محاكماتهم في جميع المحاكم .
– مساعدة أهالي السجناء والمعتقلين في إنجاز الإجراءات المطلوبة ، وإرشادهم إلى الطرق القانونية التي تؤمن زيارة ذويهم والاطمئنان عنهم .
وبعد . . . ألا يستحق مهند الحسني وأمثاله على هذه الأعمال والنشاطات غضب السلطة من جهة وحب الناس واحترامهم من جهة أخرى ؟ !
مهند الحسني . . طوبى لك في سجنك المشرّف ، ولك منا وافر التحية والاحترام .
24 / 8 / 2009
هيئة التحرير