على الرغم من أن الموت حدث طبيعي، وأنه غاية كل حي، فإن رحيل أشخاص معينين يجعل منه حدثًا جللًا، كما يحيل معناه المعتاد إلى معنى ملتبس وغائم. ليس حزنًا على الراحل من هؤلاء، وإنما لأنه ينتزع من الحياة الإنسانية رموزًا بذلوا ما هو أكثر من وسعهم للارتقاء بها، ولتوسيع آفاقها.
ولأن رياض الترك -بلا ريب- أحد هؤلاء الذين أنفقوا العمر وهم يحاولون تجسيد القيم الإنسانية وإنزالها من تعاليها التجريدي بممارسة نضالية قل نظيرها، فإن رحيله اليوم بعيدًا عن وطنه الذي صارع عمره كله لأجل حريته يضيف إلى مفارقة رحيل الرموز رحيلهم في أرض غريبة عن مهوى أفئدتهم، والأرض التي امتزج دمعهم ودماؤهم بترابها.
عقود تسعة عاش رياض الترك قرابة نصفها وهو يصدح بكلمة الحرية مع ثمن باهظ يدفعه كلما لطم بها وجه مستبد من دون أن يلقي بالًا لتفاوتهم في درجة الوحشية والطغيان. عرفته أقبية الظلام منذ خمسينيات القرن الماضي، مرورًا بعهد الوحدة، وصولًا إلى حقبة الاستبداد الأسدي التي ألقى به خلالها في غياهب انفرادية قرابة عقدين.
ليست عاديةً تلك الروح التي تبقى على توثبها وتمردها على الاستبداد بعد تلك التجربة التي لا يمكن أن يطيقها إنسان عادي، فيرفع من تسري في جنباته مرة أخرى على الملأ صوته بعبارة: “لقد مات الدكتاتور”.
وهي صرخة انطلقت في ذروة هيمنة مملكة الصمت التي شيدها الأسد الأب، ليواجه عسف وريثه في سن الشيخوخة. وليس ضمن المعتاد في تجارب البشر العاديين ألا يفت كل هذا في العضد، فيعاود الترك مرة أخرى تحديه لنظام الوريث بكل صراحة وشجاعة.
لا شك أن الجسد قد أنهك، ولكن النفوس الكبيرة تتعب في مرادها الأجسام، ولأجل هذا أصرت النفس الكبيرة مرة أخرى أن ترهق الجسد مع انطلاقة ثورة السوريين التي شارك فيها رياض الترك بكل فعالية، وبمتابعة حثيثة لكل تفاصيلها.
يقلب رياض الترك ظهر المجنّ على الزاعمين بأن الاستبداد قد روض الجميع، وتكشف مسيرته أن للحرية عشاقها المستعدين لبذل المهج في سبيلها بممارسة يقترن فيها العمل بالفكر، هذا الفكر الذي يواكب اختلاف السياقات، ويأبى ان تحكمه أيديولوجيا مغلقة مهما استبدت بعقول الجموع.
سنزرع ورد الآس على قبرك أيها الرمز، ونعاهدك أن نتابع مسيرة الحلم الذي شاء القدر أن ترحل قبل أن تراه محققًا.
هنيئًا للقبر الذي ضمك، والرحمة لروحك الأبية!