زعيم المعارضة الروسية ألكسي نافالني في ذمة الله بالسماء، وفي ذمة بوتين على الأرض. وفاة نافالني التي استبقت بأيام الذكرى الثانية لحرب بوتين على أوكرانيا، وبأسابيع الإنتخابات الرئاسية، لم يساور الشك أحداً بانها من صنع بوتين. وردة الفعل الصاخبة في العالم على هذه الجريمة المفترضة لم يعرها بوتين إهتماما يذكر، ولم تزعجه بعد أن أدار ظهره للعالم حين أشعل حربه العدوانية على أوكرانيا. فلم يصدر عنه أي رد فعل، واكتفى الناطق بإسم الكرملين بالقول أن بوتين قد أبلغ بالنبأ.
كان بوتين يكن كراهية شخصية لنافالني. فمنذ العام 2007، حين بدأ نافالني نشاطه بالكشف عن الفساد المتفشي في الكرملين ومحيطه، وحتى “وفاته” في 16 الجاري، لم يذكره بوتين مرة واحدة بالإسم. وتعددت التسميات التي كان يشير بها إليه: “هذا الشخص”، “المدون”، “السجين”، وبعد تسميمه في 2021 أصبح “المريض”.
في اليوم التالي لوفاة نافالني في معسكر إعتقاله بدائرة القطب الشمالي، وصلت والدته مع محاميه، فتم تسليمهما شهادة الوفاة التي ترجع سبب الموت إلى جلطة دموية، ولم يتمكنا من رؤية الجثة التي كانت ما زالت حتى صباح 19 الجاري تائهة بين المعتقل ومستشفى البلدة المجاورة، حسب الخدمة الروسية في BBC.
من المستبعد أن تنجلي قريبا حقيقة ما حدث في 16 الجاري في المعتقل القطبي. وسيطول الأخذ والرد حول مطالبة فريق نافالني بلجنة طبية مستقلة لتشريح الجثة، وبين رفض الكرملين الحاسم لمثل هذه اللجنة. وكانت زوجته يوليا قد تلقت النبأ وهي في قاعة مؤتمر الأمن في ميونيخ الذي تشارك فيه، وقالت أنه إذا تأكد النبأ فهي تطالب بمعاقبة بوتين ومحيطه وأصدقائه على ما يقترفونه بحق روسيا وأسرتها. وناشدت العالم والمجتمعين في القاعة (رافقوها وقوفاً بعاصفة من التصفيق صعوداً ونزولاً عن المنبر) التضامن ومساعدة روسيا للتخلص من “هذا الشر”. وظهرت بعد ظهر 19 الجاري على شاشة قناة التلفزة المعارضة Dojd لتعلن أنها ستحل محل زوجها في حمل قضيته، ودعت الروس ألا يقاسموها وجعها، بل الدفاع عن حرية الرأي والصحافة والعدالة وضد الفساد و”إعادة روسيا إلى ذاتها”. وسرعان ما أخذت تظهر على شبكات التواصل الإجتماعية عناوين: يوليا نافالنايا الزعيمة الجديدة للمعارضة الروسية.
مواقع الإعلام الروسي الرسمية والدائرة في فلك الكرملين نشرت النبأ، وبإشارة سحرية، أرفقته بسيرة حياة موحدة للراحل، تفاديا، كما يبدو، للوقوع في مطب أي تعليق “لا ضرورة له”. لكن مواقع إعلام المعارضة الروسية كرست صفحاتها الأولى للحديث عن الجريمة، وخرجت صحيفةNovaya المعارضة خالية من اي موضوعات أخرى سوى مقتل نافالني. أما مواقع الإعلام الغربية و المسؤولون الغربيون فقد تحدثوا عن مقتل نافالني وليس موته. وأشار الرئيس الأميركي في تعليقه على الحدث بأنه حذر بوتبن في العام 2021 من “الآثار المدمرة” على روسيا في حال موت نافالني في المعتقل.
Aleksader Baunov، رئيس تحرير مركز Carnegie موسكو الذي يصدر في ألمانيا تحت إسم Carnegie Politika، نشر في يوم الوفاة عينه نصاً تساءل في عنوانه عما يعنيه رحيل نافالني. ورأى أن وفاة الرجل قدمت الجواب النهائي على السؤال ما إن كان عليه أن يعود إلى روسيا، فتبين أنه رفض أن يتحول إلى منفي، بل أصر أن يبقى سياسياً . لقد غادر روسيا واحدة، وعاد إلى روسيا ثانية، وقتل في روسيا ثالثة لا آفاق سياسية فيها. لكنهم حاولوا قتله في روسيا السابقة أيضاً، “فما عسانا نقول عن الجديدة”.
يقول الكاتب أنه سبق أن تساءل العام 2015، إثر إغتيال زعيم المعارضة حينها Boris Nemtsov، ما إن كانت قد تحولت روسيا من ديكتاتورية يتم فيها غش السياسيين في الإنتخابات إلى ديكتاتورية يقتلوهم فيها. ويرى أن رحيل نافالني في المعتقل قدم الإجابة النهائية عن هذا السؤال أيضاً. فروسيا تحولت خلال هذه السنوات من ديكتاتورية الخداع إلى ديكتاتورية الخوف، وتحولت بعد اندلاع الحرب إلى ديكتاتورية إرهاب صريحة، سبق أن كانت عليه في القرن العشرين. ( أحد الأصدقاء في موسكو يقول بأن شعوراً يساوره بأن ستالين يقيم في الكرملين، وليس بوتين).
ومع أن المدن الروسية لم تشهد سوى تجمعات ضئيلة العدد في الأيام التي تلت وفاة نافالني، طرحت “المدن” على كتاب سياسيين روس بضع أسئلة حول التأثير المتوقع لرحيل نافالني على الوضع في روسيا والإنتخابات الرئاسية الشهر المقبل، وحول تأثير الحدث على تطور ديكتاتورية بوتين والعلاقات داخل المعارضة الروسية المشتتة.
بين من سألتهم “المدن كان المستشار السياسي المستقل عباس غالياموف (Abbas Gallyamov) الذي تستطلع رأيه مواقع إعلام عالمية مثل The New York Times، وكان بين العامين 2008 و 2010 يكتب خطابات بوتين حين كان رئيساً للوزراء. قال بشأن العواقب المتوقعة على الوضع في روسيا أن شرعية بوتين وشعبيته تتراجع الآن، وسيكون مستعداً للعمل على الرأي العام، لكن باستخدام العصا وليس الجزرة، والإنتقال إلى نظام توتاليتاري أكثر تشدداً. لكن هذا التوجه لن يكون لصالح بوتين على المدى الطويل، حيث أن شرعية سلطته السياسية تستند إلى الرأي العام الذي ينتخبه (مهما كانت نزاهة الإنتخابات مطعوناً لها). والإعتماد على الأجهزة الأمنية العسكرية في الحكم لن ينال رضى الرأي العام، وسيصبح بوتين نفسه أسير هذه الأجهزة.
يرى غالياموف أن الوضع الآن يتأرجح بين توجهات تنفي بعضها البعض. وتغيب في جميع هذه التوجهات المنهجة والمنطق والإتساق، ولذلك يصعب برأيه التنبوء بمسار الوضع في روسيا بعد رحيل نافالني
يقول المستشار أن الإنتخابات الرئاسية القادمة رفعت إلى حد ما من مستوى النشاط السياسي بين الروس (ليس موت نافالني)، لكن سرعان ما سيتراجع هذا النشاط بعد الإنتخابات مرسومة النتائج مقدماً. يستطيع بوتين أن يحدد النتائج التي يريد، فهو يسيطر على المحاكم ولجان الإنتخابات والأحزاب السياسية والقوى الأمنية، لكن هذه النتائج لن ترفع من شرعيته.
Nikita Smagin الذي تصفه الخدمة الروسية في “الحرة” الأميركية بالعلامة في شؤون إيران والشرق الأوسط، وكانت له إطلالة في “المدن منذ فترة قريبة، اعتذر عن الإجابة على الأسئلة لكونه إختصاصياً في شؤون الشرق الأوسط، وليس روسيا الداخل. لكنه أحالنا إلى ما كتبه على موقعه في الفايسبوك في 16 الجاري بشأن رحيل نافالني.
قال Smagin أن المعارض السياسي الرئيسي للسلطات الإيرانية مير حسين موسوي الذي دعا إلى إعادة إحتساب الأصوات في العام 2009، ويدعو الآن إلى إستفتاء حول أسس النظام الإيراني، يخضع للإقامة الجبرية منذ العام 2009. ويشير إلى أن السلطات الإيرانية تملك الكثير من الوسائل للتعامل مع أخصامها العاديين. لكن أن تأخذ المعارض الرئيسي الذي يتابعه كل العالم، وتقتله ببطء في المعتقل، لن يسمح لنفسه خامنئي بذلك، بينما بوتين يبيح لنفسه هذا.
المعلق على شؤون الشرق الأوسط في صحيفة NG الروسية Igor Subbotin (له إطلالات متعددة في “المدن”) يقول بمقتل نافالني وليس وفاته. ويقول ل”المدن” بأنه لا يعتقد أن الحدث سيترك تأثيره على الإنتخابات القادمة. فالناخبون ينظرون إلى النظام السياسي الحاكم بعين الولاء، وما حدث في معتقل الدائرة القطبية لن يكون بالنسبة لهم عاملاً مهماً.