لا يعلم الجميع أنّ العلاقات بين إيران وإسرائيل كانت في أحسن حالاتها قبل حوالى أربعة عقود، لذلك فإنّ قراءة تاريخ الدولتين والتحالف بينهما تفيد في تحليل الاستراتيجيات التي تتبعها كلٌّ من طهران وتل أبيب في الإمساك بمفاصل الشرق الأوسط، من دون قضاء إحداهما على الأخرى، إذ يفيد وجود إسرائيل إيران في بسط نفوذها على بلدان عدة بحجة محاربة إسرائيل وخدمة القضية الفلسطينية، ويفيد وجود إيران إسرائيل في الحصول على الدعم الأميركي والغربي، والسماح لها بخوض حروب ومعارك بحجة الحفاظ على أمنها من الخطر الإيراني، حتى ولو كان ذلك يتناقض مع السياسة الأميركية التي تسعى إلى الحفاظ على حدّ أدنى من العلاقات مع إيران.
وهكذا، فإنّ الحفاظ على حالة اللاحرب الدائمة في الشرق الأوسط تساعد إيران وإسرائيل في جني مكاسب أكثر بكثير من حالة الحرب الطاحنة التي تقضي على كل الأهداف الاستراتيجية.
إذا عدنا إلى تاريخ العلاقات الإيرانية-الإسرائيلية، فهي تدرّجت من موقف إيراني معارض في البداية لإنشاء دولة إسرائيل، إذ صوّتت طهران في عام 1947 ضدّ قرار الأمم المتحدة تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، كما عارضت إيران في عام 1949 انضمام إسرائيل إلى الأمم المتحدة.
لكن الموقف الإيراني من إسرائيل سرعان ما بدأ التغيّر في ظلّ تبنّي الشاه محمد رضا بهلوي (هو آخر شاه أو ملك يحكم إيران قبل قيام الثورة الإسلامية) سياسات خارجية وداخلية، منسجمة مع مواقف الغرب، بخاصة الولايات المتحدة التي كانت من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل.
وفي آذار (مارس) عام 1950، اعترفت إيران بإسرائيل لتكون ثاني دولة إسلامية تقوم بهذه الخطوة بعد تركيا.
ومع ذلك، فإنّ طهران اتبعت “السرّ المعلن” في علاقتها بإسرائيل، وعدم الإعلان الرسمي عن اعترافها بإسرائيل على مدى عقود رغم العلاقات القوية والعلنية بين البلدين.
لكن العلاقات لم تدم طويلًا، وبدأ تدهور العلاقات بين إيران وإسرائيل منذ الثورة الإيرانية عام 1979، فقطعت إيران كل العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع إسرائيل، ولم تعترف حكومتها الإسلامية بشرعية إسرائيل كدولة.
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي في أوائل تسعينات القرن العشرين، بدأ التحول من السلام الفاتر بين إيران وإسرائيل إلى العدائية، ليتصاعد الصراع في أوائل التسعينات مع تبنّي حكومة إسحق رابين موقفاً أكثر عدائية تجاه طهران.
واليوم يدور الصراع في المنطقة بين هاتين الدولتين وحلفائهما من أجل تحقيق الهدف الأساسي وهو بسط السيطرة على منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الاستراتيجية بين الشرق والغرب، فإيران تسعى إلى إبعاد إسرائيل عن هذه المنطقة أو التقليل من دورها وإشغالها بمعارك داخلية أو خارجية تلهيها عن الاستفادة من الدعم الأميركي العسكري والمادي الذي يخولها أن تصبح قوة دولية، لولا الحروب مع أعدائها والتكلفة العالية والتململ الداخلي الذي جعل السياسة الإسرائيلية الداخلية عرضة للاهتزازات الناتجة من الحاجة إلى الاهتمام باستراتيجيات الحروب اللا متناهية، فضلًا عن إدخال اليمين المتطرف في الكثير من الحكومات الإسرائيلية للانتقام من الفلسطينيين ومن يدافع عنهم، فيما هدف إسرائيل هو منع إيران من إنتاج أسلحة نووية تجعلها صاحبة قرار دولي وإقليمي وامتلاك ورقة قوية في المفاوضات مع الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب تسهّل واشنطن حصول طهران عليها من خلال اتفاقات سرّية أو جانبية أو عبر الوسطاء.
وهذا يعني أنّ الاتفاق الأميركي- الإيراني هو من يحدّد شكل المواجهة الإيرانية-الإسرائيلية، لكن الاتفاق الأميركي-الإسرائيلي ذو تأثير محدود جدًا في تحديد شكل تلك المواجهة، لأنّ مصالح أميركا مع إيران تتخطّى كل الاعتبارات الإسرائيلية في تلك المواجهة.
من هنا يمكن فهم الحرب بالوكالة التي تخوضها إيران ضدّ إسرائيل والتي، بحسب مجريات الحرب في غزة، لن تتطور إلى حرب مباشرة بين الدولتين، وهو ما تؤكّده سياسة الصبر الاستراتيجي التي تتبعها إيران في الردّ على ما تقوم به إسرائيل من اغتيالات لقادتها، سواءً بعد السابع من تشرين الاول (أكتوبر) أم قبله، فطهران امتلكت قبل “طوفان الأقصى” حججًا أكثر قوة للردّ على إسرائيل التي نفّذت خلال السنوات الأخيرة عمليات داخل الأراضي الإيرانية، فاغتالت مسؤولين وعلماء، واستولت على أرشيف البرنامج النووي وزرعت عبوات ناسفة داخل مفاعلات نووية، كما قتلت كبار جنرالات الحرس الثوري ومستشاريه في سوريا. وفي كلّ مرّة كانت طهران تصدر فتاوى لعدم الردّ، وكان آخرها بعنوان “الصبر الاستراتيجي” لتجنّب أيّ احتكاك مباشر مع إسرائيل يشعل فتيل الحرب الكبرى في الشرق الأوسط، لكنها فوّضت الردّ للفصائل الموالية في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
والسؤال الذي يُطرح، لماذا تحرّكت إيران وضربت أهدافاً إسرائيلية بعد استهداف إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق، علمًا أنّه سبق لإسرائيل أن استهدفت الأراضي الإيرانية مباشرة حين نفّذت عمليّاتها داخل إيران.
الجواب يكمن في من يرسب في امتحان الحفاظ على وجود الآخر مع “زكزكته” واستفزازه وربما استدراجه إلى حرب قد تجبر الولايات المتحدة على توزيع جوائز ترضية، سواءً لإيران التي تقترب من إنتاج القنبلة النووية كما قال مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية رفائيل غروسي، أم لإسرائيل بالسماح لها باجتياح رفح وتنفيذ مخطط الترانسفير.
في المحصلة، يبدو أنّ إيران و إسرائيل اتفقتا قبل 40 عامًا على أن تحافظ كل منهما، ليس على علاقتها بالأخرى، بل على عدائيتها وفقًا لقانون السياسة الأخطر.. إذا لم تجد عدوًا فاصنعه.