عام انتصار الانتفاضة السورية وانهيار 54 سنة من نظام الاستبداد والفساد والمافيات ومجرمي الحرب الذي قاده آل الأسد، الأب حافظ مثل الوريث بشار، وعصاباتهم من آل مخلوف وشاليش وخدّام وطلاس وسواهم؛ يصادف أيضاً الذكرى المئوية لولادة المفكر والطبيب النفسي والفيلسوف الاجتماعي والمناضل المارتينيكي ــ الجزائري فرانز فانون (1925ــ1961). ليس من دون سلسلة من التقاطعات بين أفكار الرجل حول العنف والثورة والتحرر الوطني، وبين ملفات شتى تتصدّر النقاش الفكري والسياسي والتنظيمي الذي اقترن بانتفاضات الشعوب العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، ثمّ سوريا بصفة خاصة ومنذ 2011 وصولاً إلى طيّ صفحة “الحركة التصحيحية”.
وفي حدود ما تعلم هذه السطور، كانت ندوة يتيمة عقدها “مشروع العلوم السياسية حول الشرق الأوسط”، POMEPS، بالتعاون مع “مركز الدراسات المغاربية في تونس”، CEMAT، أواخر أيلول (سبتمبر) 2023 في تونس؛ هي الوحيدة أو تكاد، التي بحثت انتفاضات العالم العربي في ضوء تأثيرات فانون. صحيح أنّ الأبحاث كانت غنية ومتشعبة وشاملة، وربما ذهب بعضها إلى حدود قصوى من التأويل أو الإفراط في تسخير الفانونية لاستخلاص فرضيات لا تقلّ اتكاء على المستسهَل أو المبتسَر. مؤسف إذن، في العموم، أنّ استعادة فانون لم تشغل حيزاً لائقاً أو كافياً في السجالات العربية، رغم أنّ مطاحن كلام هائلة دارت وضجّت وعجّت حول مسائل شتى تخصّ طبائع هذه الانتفاضات وأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية.
ومن الطبيعي، استطراداً، أن يقتصر الاستئناس على محافل دولية أو غير عربية عموماً، وفي تلك الأوساط التي اعتادت فتح ملفات ما بعد الاستعمار وتحليل مفاعيلها السابقة واللاحقة في ضوء أعمال فانون: كتابه المهم الأول “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء”، 1952؛ ثمّ “السنة الخامسة من الثورة الجزائرية” 1959، و”في سبيل الثورة الأفريقية” 1964، بالإضافة إلى “معذّبو الأرض” الذي صدر ومؤلفه يصارع سرطان الدمّ في مشفى أمريكي (الترجمة العربية أنجزها الراحلان سامي الدروبي وجمال الأتاسي، ونُشرت سنة 1966).
لافت إلى هذا، أنّ بعض تطورات الانتفاضة السورية ــ لا سيما استراتيجية تسعير العنف التي انتهجها النظام، وسعى من ورائها إلى استثارة نزوعات العسكرة؛ ومثلها استراتيجية ارتكاب المجازر لدفع المدنيين نحو التسلّح، سواء بهدف الدفاع عن النفس أو لتنظيم مقاومة شعبية في مواجهة آلة النظام العسكرية الوحشيةـ قادت دفة النقاش إلى واحد من أبرز المفاهيم الإشكالية في كتلة أفكار فانون: العنف، والعنف المضادّ. صحيح أنه تحدّث عن عنف المستعمِر ضدّ المستعمَر، لكن ما اعتمده النظام السوري من إواليات العنف، العاري والمفتوح والهمجي والشامل، لم يذكّر بعنف ذلك الاستعمار الذي وصفه فانون، فحسب؛ بل كان قد تفوّق عليه في الوحشية.
وكما أنّ “محو الاستعمار” كان في نظر فانون “يستهدف تغيير نظام العالم” و”قلب النُظُم قلباً تاماً”؛ فإنّ إحداث تغيير جوهري في حياة سوريا أو تونس أو مصر أو ليبيا، والانتقال بنُظُمها السياسية الاستبدادية والوراثية العائلية إلى أخرى ديمقراطية لا يقلّ مغزى في وجدان الشعب وحياة المجتمعات عن دحر الاستعمار.
فإذا لجأ المستعمِر و/أو نظام الاستبداد المحلي إلى ممارسة العنف المنهجي المنظّم (استلاب الثروات، تفتيت الهوية الوطنية، إجبار المواطنين على العيش في شروط اجتماعية واقتصادية ونفسية وصحية وتربوية وثقافية متدنية، وسنّ القوانين الجائرة، وممارسة النفي والإبعاد والاعتقال والتصفية الجسدية، وقصف المدن عشوائياً، وتنفيذ المجازر عن سابق قصد وتصميم، واستخدام الأسلحة المحرّمة…)، فبأي حقّ يُنتظر من الضحية أن “تكبح جماح النفس” وأن تمتنع عن اللجوء إلى كلّ وأيّ وسيلة تكفل تفكيك ذلك النظام؟ أليس هذا ما رمى إليه فانون حين تساءل: لماذا يكون من واجب الضحية أن تربّي قاهرها وتعلّمه الأخلاق السلمية؟ فالقهر، وفي جانب محدّد منه هو الاستبداد، لا يقوم بأقلّ من شَرْعنة العنف وقَنْوَنته وتنظيمه في مؤسسات بنيوية، فضلاً عن تجريد العنف الشخصي الذي يمارسه المستعمِر/المستبدّ من الطابع الفردي، وإسباغ الصفة القانونية عليه.
والإنصاف يقتضي الإشارة إلى أنّ مسألة العنف لم تكن واضحة تماماً في مشروع فانون العام، وامتزجت عنده بمفهوم “استخدام القوة” أحياناً، و”الكفاح المسلح” أو “الانتفاضة الجماهيرية” أو “الانبعاث الشعبي” أحياناً أخرى؛ بل إنه، في “معذّبو الأرض” ذهب إلى حدّ الحديث عن “عنف مسالم”.
كذلك فإنّ مقولته الشهيرة حول الحاجة إلى “التطهّر” عبر العنف الثوري، قصدت ما يشبه عملية تخليص الجسد من سموم الكحول أو سموم المخدرات، كخطوة أولى ضرورية قبل التخلّص من الإدمان.
والحاجة إلى “التطهّر” ارتدت عند فانون طابعاً جَمْعياً أكثر ممّا هو فردي، وتقاطعت مع مفهوم معقّد آخر هو “صورة العالم”، كما تتباين وتتناقض بين المستعمِر/ القاهر، والمستعمَر/ المقهور.
إنّ إسقاط أنظمة الاستبداد، مثل التحرّر من الاستعمار، “يبثّ في الوجود إيقاعاً خاصاً”، حسب فانون، و”يحمل لغة خاصة وإنسانية جديدة”؛ الأمر الذي شهد العالم بأسره مظاهره في شوارع سوريا قاطبة، حيث الأفراح بسقوط نظام “الحركة التصحيحية” لا تكفّ عن تطعيم مظاهرها بمضامين تلمّس المستقبل، باستبشار كبير وتيقّظ عالٍ، في آن معاً.
- القدس العربي