سألني أحد القراء، في أمسية حوارية، كانت تضم عددا من القراء، وعددا من طلاب المدارس الذين أتشرف بأن يقرأوا لي من ضمن مقرراتهم:
لقد أعدت كتابة عمل منشور لك من قبل، ونشرته بصيغته الجديدة، وبعنوان مختلف، وبالرغم من أنك نوهت إلى ذلك في بداية الكتاب، إلا أنني أختلف معك، فالعمل المنشور لا ينبغي تغييره.
كان سؤالا طويلا، وبالغ الحساسية، وأعترف أنني لم أجب عليه كما ينبغي، وبدا لي القارئ الذي سأل غير مقتنع بما سقته من مبررات.
ففي عرف كل الناس تقريبا، تظل النصوص الإبداعية المنشورة أعمالا مقدسة، يبدع الكاتب غيرها، لكن يتركها هكذا دليلا على تطوره حين تقارن بأعماله اللاحقة/ تماما كالأبناء، يولدون ويكبرون، ونتابعهم، بالرغم من العيوب الكثيرة في بعضهم، لكن بالطبع لا يمكن إعادتهم إلى الأرحام، وولادتهم من جديد.
هنا بالتحديد ثمة فرق، فالإنسان يخلقه الخالق، بينما النصوص يصيغها مخلوق، ولن تكون مقدسة بأي حال من الأحوال، بالمعنى المعروف للقداسة، إنما يمكن أن تكون البدايات الضعيفة، أو غير المصاغة جيدا، كما قلت، مرحلة تقود إلى النهايات الأكثر تطورا.
حين تقرأ «في ساعة نحس» أو «جنازة الأم الكبيرة»، لماركيز، وتأتي لتقارنهما برواية مثل «الحب في زمن الكوليرا»، ستجد كثيرا جدا من المقاطع التي كانت ستكون أفضل في الروايتين الأوليتين، إذا ما أعيدت الكتابة. فالخيال هناك كان ما يزال في بداية تفعيله، قبل أن ينضج في «مئة عام من العزلة»، ويزداد نضوجا في «الحب في زمن الكوليرا». لكن ماركيز لا يلتفت لذلك، وكل متابعي تجربته لا يودون أن يقارنوا بداياته بنهاياته، سيقال أنها تجربة كبيرة، ومهمة، وبالفعل كانت تجربة كبيرة ومهمة، وتعيش حتى اليوم.
هذا ينطبق على تجارب كونديرا، وإن كان كونديرا صارما جدا في تجربته، وسعى منذ البدايات إلى جعل أسلوبه واحدا. أسلوب فلسفي، بعيد عن العجائبية. وكذا نماذج أخرى لكتّاب تجد أعمالهم الأولى أضعف من الأخيرة، ويوجد بالطبع عند البعض نضج مبكر، بينما آخر الأعمال لا ترتقي لمستوى الأعمال الأولى، هنا نستطيع أن نقول باطمئنان، أن الكاتب قد تعب، وتعبت قدراته.
وفي هذه الحالات، ينبغي أن يدرك الكاتب ذلك، فيتوقف عن الكتابة، كما قلت من قبل، واقترحت سنا للتقاعد، لم يوافقني عليها الكثيرون.
بالنسبة للسؤال الخاص بي من القارئ المتابع، أحب أن أؤكد أنني أعدت كتابة عملين منشورين، وليس عملا واحدا، وكلا العملين نجحا بعد الكتابة الثانية، بينما في الكتاب الأول لم يلتفت إليهما أحد، مما يؤكد أنني لم أخطئ في حقهما، ولم أضلل القارئ حين نوهت إلى ذلك.
الذي حدث أنني قرأت العملين المنشورين، بعد فترة طويلة من النشر، قرأتهما بمزاج قارئ عادي، لا علاقة له بالكتابة، وكانا من أعمال البدايات المحتشدة بالصور الشعرية، وقليل من الدراما. هذه الطريقة تعجب البعض، لكنها في رأيي ليست الطريقة المثلى لجذب القراء الباحثين عن البساطة، وعدم التعقيد. وقد كنت متأثرا بالشعر إلى حد كبير، كل جملة أكتبها هي صورة شعرية، فقمت بكل جرأة بالاشتغال على تلك الجمل وأعدت كتابتها بطريقة أكثر بساطة، فظهرت الشخصيات بوضوح، وظهرت القصة مفهومة. وقد تمنيت أن أعيد كتابة نصوص أخرى من البدايات، مليئة بالشخصيات الجيدة، لكن الوقت لا يسمح بذلك.
بالنسبة لكتابة السير الذاتية، أو سير المدن والأماكن، هذه أكثر احتمالا لإعادة كتابتها، إن أعاد الكاتب قراءتها بعد سنوات طويلة، ذلك بسبب أن كثيرا من الأحداث والمواقف التي يكتبها أحد ما، لا تكون غالبا هي كل المواقف المهمة في حياته، هناك مواقف أكثر أهمية. لكن لسبب أو لآخر، لا تطرأ على الذهن ساعة الكتابة، وتأتي لتلح بعد سنوات من نشر الكتاب. وقد أعدت قراءة كتاب لي في السيرة مؤخرا، واكتشفت أنني أغفلت ذكر مثل هذه المواقف، وإن ألحت عليّ تلك المسألة، سأعيد كتابة تلك السيرة بلا أي تردد.
لقد رددت على القارئ بكلام مشابه لذلك، وذكرته بأن كثيرا من القراء المتمكنين يكتبون في مراجعاتهم للكتب جملا تحريرية، باعتبار أن الكاتب أغفل شيئا وكان يمكن أن يضيفه. الكاتب لا يقول شيئا عند قراءة تلك الملاحظات، وربما لا يقرأها أصلا إلا لو أرسلت له شخصيا، فموقع مثل غودريدز، قد يهم القراء، لكن قليلا من الكتاب من يمر به.
إذن لو التفت الكاتب بنفسه إلى عيوب أو نواقص في نصه، وأراد إكمالها، ونوه إلى ذلك، ماذا يضير القارئ؟ هو ليس ملزما باقتناء الكتاب في صورته الجديدة بلا شك.
موضوع مشابه، وهو تغيير العنوان الخاص بكتاب بعد صدوره بفترة، في طبعة جديدة. هل هذا مشروع؟ وليس تضليلا للقارئ؟
أعترف أن تغيير العنوان يضايقني فعلا، وكم من مرة اشتريت كتابا أملكه بالفعل، حين عثرت عليه بعنوان أخر، ولم أنتبه لذلك، وجاء يوم غيّر فيه ناشر عنوان كتابين لي، في طبعتين جديدتين ولم يخبرني، أو ربما أخبرني قبل النشر بفترة قصيرة، واضطررت لكتابة أسطر عدة على صفحتي في فيسبوك منوها إلى ذلك.
المهم في كل تلك الأمور، مصارحة القارئ، فهو العمود المهم في مسألة الكتابة، والكتابة موجهة إليه قطعا.
*كاتب من السودان
- القدس العربي