ماهر سليمان العيسى
الطائفية عرفها ابن خلدون قبل حوالي 800 عام باعتبارها (عصبية) أو عصبة، عادة ما تتشكل كوحدة اجتماعية متمايزة، ومن شروط تكوينها أن تكون محدودة (أقلية) تواصلية ترابطية، تضامنية، أو جماعة صغيرة تتمتع بنمط، أو هوية خاصة، أو كيان صغير داخل النسيج الاجتماعي الوطني، تتكون تحت يافطة الأعراف أو الدين أو العقيدة أو المذهب أو الإرث المشترك، وهذا شكل طبيعي ومقبول في المجتمعات الوطنية عامة، ولكن غالباً تربط مصالحها وامتيازاتها بما تضمّ إليه الأطراف النافذة داخل هذه الجماعة، لتجعل من هذه الجماعة أداة دفاع عن هذه المصالح والامتيازات، وهذا ما يتيح أن تتغول هذه الأطراف النافذة داخل هذه الجماعة الطائفية أولاً، وإن استطاعت على باقي النسيج الاجتماعي الوطني. محتمية ومغلفة مصالحها وما تفعله باعتبارها مصلحة الجماعة الطائفية ذاتها، فتدفعها للانكماش والتكور حول هذه المصالح وكأنها رمز لقوة الطائفة أو رصيدها. وهذا ما يتبدى بشكل خاص حين تكون هذه الجماعة الطائفية معزولة، أو هامشية، اقتصادياً، وسياسياً، وثقافياً، في النسيج الاجتماعي الوطني العام.
وعلى وجه العموم، يمكن القول إن (الطائفية ليست موقفاً دينياً أو عقدياً محضاً) ويمكن أن تحمل معاني أخرى حسب حاجة وفعالية الأطراف النافذة في الجماعة الطائفية وواقع هذه الجماعة الموضوعي ضمن النسيج الاجتماعي الوطني العام.
وفي واقعنا السوري كي لا نستمر بالحديث نظرياً، فهو مجال للتحليلات والرؤى المختلفة، هناك مجموعة ملاحظات تقترب من كونها حقائق أساسية لفهم الظاهرة وما يؤثر فيها أهمها:
- السنة ليسوا طائفة في سورية، ولا يمتلكون مواصفات الطائفة الأقلوية وشروط تكوينها، لأنهم الغالبية العظمى والعمود الفقري للمجتمع السوري وللدولة الوطنية السورية، ويتوزعون على أشكال انتظام أخرى أكثر تأثيراً في نسيجهم لتحقيق التضامن والترابط والتأثير المشترك والمتبادل … الخ، مثل الانتظام المديني (المناطقي)، أو القبلي، أو الأيديولوجي السياسي …الخ
- سورية دولة محيطية المدن والتجمعات السكانية (كل المحافظات السورية محافظات حدودية باستثناء حماة ومحافظة مدينة دمشق) وهذا يعني، حجم التأثير المتبادل بين المحافظات الحدودية وما يحدها من دول يصل أحياناً إلى أن يكون أكبر من تأثير المدن والمجتمعات السورية على بعضها مثال(درعا والأردن) ، (دير الزور والعراق)، (ريف دمشق ولبنان)، …. الخ وهذا ما يُمَكّن من الاختراقات والتأثير غير المتحكم به وغير المرصود غالباً.
- الطوائف السورية (الأقليات) هي تاريخياً جماعات سكانية ريفية، ما يعني دمج وتركيب التمايز الطائفي على الصراع الاعتيادي بين الريف والمدينة بكل ما يجره هذا الصراع من مشاكل حتى في المجتمعات المتمدنة جداً (في أوربا)، وهي وضعية كثيراً ما ضاعفت حجم الانكماش أو التناقض، وساهمت مساهمة مهمة في بناء سردية المظلومية.
- في الطوائف الدينية السورية الأكبر هي طائفة العلويين، يمكن القول إنه دينياً هناك علويون وليس هناك علويات، لماذا؟ لأن هذا المذهب الطائفي الباطني لا يعتبر المرأة مكلفة بالدين، ولا تُعلّم المرأة أسرار الدين (الباطنية). وهذا ما كثف جرعة الذكورية في هذه الطائفة من جهة، وحرر المرأة من تبعات الالتزام الديني من جهة أخرى، ولكنه من جهة أهم كثف مفهوم (العصبة) أو العصبية التضامنية لملء الفراغ والتعويض على ما هو عقدي وديني بين أبناء هذه الطائفة ذكوراً وإناثاً.
- العلويون هم أضعف الطوائف الإسلامية وأكثرها شحاً في الرصيد الفقهي والديني، حيث كان ينقل التعليم الديني مشافهة دون كتب أو مرجعية علمية، بل يمكن القول أن الغالبية الساحقة مما يعرف بمشايخ العلويين أقرب للأميين. وبالتالي ليس هناك موروث فكري يمكن أن يقارع أو يناظر.
- عندما كنا نتحدث عن النظام السابق، فالنظام السابق وحتى العام الأول من الثورة السورية (بعد هذا العام تحول إلى مجرد “برغي” في الماكينة الإيرانية والروسية) كان يتشكل بالتحديد من (مؤسسة الرئاسة “الرئيس وحاشيته وعائلته” + قيادات أجهزة الأمن الرئيسة + مراكز القوى والقيادات العليا داخل الجيش).. هذا المزيج القاتل هو النظام السوري السابق، وهو حصراً من كان يتحكم بكل أشكال القرارات السيادية في البلاد ” سياسية، أو أمنية، أو عسكرية، أو اقتصادية، بل وحتى الإدارية” وهذا المزيج القاتل كان علوياً وطائفياً بامتياز، أما البقية من جهاز حكومي أو أطراف رديفة، فهي مجرد لوازم تنفيذية لا بد منها، مهما كانت انتماءاتها الطائفية، ولكن : هذا لا يعني أن هذا المزيج الطائفي كان ممثلاً للطائفة العلوية، أو أنه كان ينفذ برنامجاً سياسياً أو أجندة لخدمة مصالح الطائفة العلوية، بل على عكس ذلك هي من كانت في خدمته، و كان يعتبرها الخزان البشري الأهم الذي يستطيع أن يستخدمه ويضحي بأفراده حين اللزوم لإنجاز المهمة الوحيدة التي كانت تهمه، وهي بقاؤه واستمراره.
- منذ اليوم الأول وخلال أيام الثورة السورية، أطلق (المزيج القاتل) سياستين موجهتين الأولى: إلى عموم فرق الشبيحة الرديفة له في مختلف المناطق، ولأوساط الطائفة العلوية بشكل خاص لتوريطها وغمسها وتلويثها أكثر في عملية الصراع، وبالتالي الدفاع عنه، فكانت مجموعة من الإعفاءات والتجاوزات والامتيازات التي وصلت إلى أن يحق لمن يقاتل دفاعاً عن النظام استباحة كل ما تصل إليه يده، مادامت هذه الاستباحة تخدم الهدف الرئيس، وهو الدفاع عن النظام، وهذا أصل ظهور ظاهرة “التعفيش” و” أسواق السنة” التي شهدها السوريون جميعاً. أما السياسة الثانية، فكانت الماكينة الدعائية ” على رأسها ما عرف بالجيش الإلكتروني؛ ليشكل أكبر سحابة ضبابية طائفية باتجاهين، الأول ليخلق حالة الرعب والخوف لدى (الخزان البشري) العلوي، والاتجاه الثاني ليثير أكبر استفزاز ممكن لدى الطرف الثاني، ويجعله ينزلق إلى أدنى مستوى من الخطاب الطائفي المتشنج، خصوصاً بعد أن لاحظ غياب القيادة الموحدة سياسياً وإعلامياً في أوساط الثورة. وهذ ما خلق كرة ثلج تضخمت تدريجياً، حتى أضحى الخطاب الطائفي وإعلان البعض عن طائفيتهم بصيغتها الحاقدة والعنصرية دون فهم أو وعي، مجالاً للمنافسة والتباهي، بعد أن كان كما يجب أن يكون لدى البشر الطبيعيين “عار يجب ستره “.
- لابد من الإقرار بأن نظام الشبيحة الطائفي قد أدار معركته كما أراد، بل وتحكم بردود أفعال أطراف من أهل الثورة وتوجيهها، بما يخلق الأجواء التي يحتاجها، وبشكل خاص في أوساط العلويين، ولولا التوافق الدولي على إقصائه، والحاجة لتغييره لما كان أحد منا في دمشق اليوم. وستكون ثالثة الأثافي اليوم أن يستمر بعد أن سقط وهرب في توجيه سلوكنا لما هو مناقض لمصالحنا الوطنية، وأن ننساق إلى ما يريد وكأننا بلا عقول، ولا إدراك.
- السؤال الأهم اليوم، لماذا فعل الفلول ما فعلوه، ولماذا اختاروا هذا التوقيت؟.
مهم أن نفهم أنه من غير المتوقع أن يحاول هؤلاء (الفلول) استعادة النظام السابق، ولا يمكن أن يكونوا بمثل الغباء الذي يعجز عن قراءة حجم التغير الذي حصل في سورية، ولكن ما جرى يشير إلى أننا الآن في “المرحلة الأولى” من خطة الرد الإيرانية لإعادة بناء ميزان القوى الذي أسقط مشروعها بكامله، والتي تشير إلى تحالف الفلول بمن فيهم عموم فلول (إيران) في سورية. فمن نواجههم اليوم ليسوا فلول نظام آل الأسد فقط، الواضح أنهم سيحاولون خوض حرب عصابات طويلة الأمد – فيها كرّ وفرّ – للأهداف التالية:
الأول – إثارة القلاقل والتوترات أطول فترة ممكنة لتشويش صورة النظام الجديد، وإسقاط صفة (النظام القوي) عنه، فهذا أصلاً ما يبحث عنه الغرب للسيطرة وضبط الوضع في سورية، وإظهاره كنظام طائفي وضعيف وعاجز. ما سيكون هناك تردد في دعمه وتسهيل إدارته دولياً.
الثاني – استعراض قوة لشدّ عصب وإعادة تجييش – بشكل خاص – مَن كانوا منخرطين في (الدفاع الوطني) كمصدر رزق، وعموم الحاضنة الاجتماعية (الطائفية) التي انفضّت عنهم بعد أن شعرت بالهزيمة والخذلان من نظام آل الأسد الذي ضحّت من أجل بقائه بالكثير، ظناً منها أنه حصراً من يحميها. وإعادة تشكيل أسطورة مظلوميتها التي يُعاد إحياؤها، بوضعها دريئة بشرية، وبالاستفادة مما فرضه وضع حل الجيش والأجهزة الأمنية ومنظومات الشبيحة والموظفين الوهميين (أي الوضع الذي كان يشكل مصدر رزق رئيس لشريحة وازنه منهم). فهؤلاء لم يتبخروا، وما زالوا قابلين للتجييش.
الثالث – القناعة لدى هؤلاء أن استمرار هذا الوضع طويلاً، وضمن عملية تقسيم عامة، ستسوق باعتبارها الحل الوحيد المتاح، قد يساعد في نهش جزء من الجسد السوري، على شكل دويلة مستقلة، أو كانتون، أو حتى إقليم فيدرالي،. أو أن يفرضوا العفو عنهم والتسوية لأوضاعهم بأسوأ الاحتمالات. وهذا هو الهدف الإيراني الرئيس. الذي يتلاقى مع الهدف الإسرائيلي الرئيس.
هذه الأهداف المرحلية من الخطة (الإيرانية) والتي تتقاطع (للمفارقة) مع مصالح إستراتيجية إسرائيلية، بل وتساهم فيها إسرائيل على طريقتها وعبر أدواتها.. لقناعتها بأن محصلة (التقسيم الذي سيتم !!) سيضمن لها ما تريد.. ولهذا حتى ولو أُخمِد هذا التمرد للفلول، فلن تنتهي القضية، وسيكون لديهم كرة أخرى، وأخرى، فهم يريدون استثمار هذه الفترة العصيبة التي تمرّ بها بلادنا، فهل نعين عدونا على أنفسنا باستخدامنا لخطاب طائفي متشنج وموتور؟
الآن، أين هي مصالحنا كسوريين؟ وكيف يمكن أن نعمل عليها؟ وماذا يجب أن يكون عليه موقفنا كسوريين تجاه هذه الظاهرة؟ وكيف يمكن أن نتعامل معها؟ هذا الأسئلة التي يجب أن تجيب عليها عقولنا، وليس غرائزنا.
- كاتب وسياسي سوري