دمشق ـ «القدس العربي»: هزّ قرار وزارة الداخلية السورية بالإفراج عن عدد من ضباط النظام الموقوفين خلال عملية «ردع العدوان» الرأي العام، وأثار موجة واسعة من الغضب الشعبي والتساؤلات الحقوقية. فبين تصريحات رسمية تؤكد استيفاء التحقيقات وإشراك لجان «السلم الأهلي»، ووساطات قادها فادي صقر، أحد أبرز المتهمين بجرائم حرب، تتكشّف معالم مصالحة وصفها السوريون بأنها «بعيدة عن الإنصاف، وتدور في فلك تسويات سياسية معقدة».
ملف العدالة
وأعاد القرار الذي أتى دون محاكمات علنية أو توضيحات قانونية شاملة، إلى الواجهة ملف العدالة الانتقالية في سوريا، وسط اتهامات بأن المصالحة الجارية تتجاهل أصوات الضحايا وتفتح الباب لتكرار الإفلات من العقاب.
وكشفت وزارة الداخلية السورية، أمس الثلاثاء، أسباب إطلاق سراح عدد من الضباط التابعين لنظام الأسد، الموقوفين خلال عملية «ردع العدوان».
وبيّن مصدر في الوزارة في تصريحات لـ «الإخبارية السورية» أن غالبية المفرج عنهم هم «ضباط عاملون» منذ عام 2021، مشيرا إلى أن توقيفهم جاء بعد أن سلّموا أنفسهم طوعا عند الحدود العراقية وفي منطقة السخنة، ضمن ما تُعرف بحالة «الاستئمان».
كذلك عقدت لجنة السلم الأهلي، مؤتمرا صحافيا في مقر وزارة الإعلام في العاصمة دمشق، أكدت فيه أن الضباط الذين تم الإفراج عنهم مؤخرا هم «ضباط عاملون» منذ عام 2021، وقد سلّموا أنفسهم طوعا، مؤكدة أنهم لم يُعتقلوا كأسرى أو بموجب مذكرات جنائية.
لجنة السلم الأهلي قالت إنه لم تثبت بحقهم تهم ارتكاب جرائم حرب
وتناول عضو اللجنة حسن صوفان خلال المؤتمر مستجدات ملف الإفراج عن عدد من الضباط والعناصر التابعين للنظام السابق، والذي أثار جدلا واسعا في الأوساط الحقوقية والشعبية.
وأشار إلى أن الموقوفين خضعوا لتحقيقات موسعة، ولم تثبت بحقهم أي تهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، موضحا أن استمرار احتجازهم رغم غياب الأدلة لا يخدم المصلحة الوطنية، ولا يستند إلى أي أساس قانوني مشروع.
وفي معرض رده على الانتقادات الموجهة إلى اللجنة بشأن الإفراج، شدد صوفان على أن هذه الإجراءات لا تعد بديلا عن مسار العدالة الانتقالية، التي بدأت بالفعل في سوريا، وتُشرف عليها اللجنة الوطنية للعدالة الانتقالية التي تم تشكيلها بمرسوم رئاسي خاص لمتابعة ملفات الانتهاكات والمحاسبة والمصالحة.
وأكد أن «لجنة السلم الأهلي تعمل بالتوازي مع اللجنة الوطنية للعدالة الانتقالية في إطار تكاملي، يراعي معايير العدالة والإنصاف، دون أن يتعارض مع المبادئ القانونية أو يُشكل تجاوزًا لحق الضحايا»، مشيرًا إلى أن الإفراج عن الموقوفين لا يعني إسقاط القضايا إن وُجدت، بل هو إجراء قانوني استند إلى نتائج تحقيقات رسمية.
عبد الغني: ليس من حق الحكومة الإفراج عنهم من المفترض أن يكون الأمر بيد القضاء
واعتبر أن إشراك شخصيات مثيرة للجدل مثل فادي صقر في مسار المصالحة الوطنية يأتي في إطار السعي لتفكيك العقد المتراكمة، ومعالجة الأزمات المعقدة، ومواجهة التحديات التي تهدد استقرار البلاد.
وقال: «ندرك تماما حجم الألم والغضب لدى عائلات الشهداء، ونتفهم مشاعرهم، لكن متطلبات مرحلة السلم الأهلي تفرض علينا اتخاذ قرارات صعبة تهدف إلى تأمين قدر من الاستقرار النسبي تمهيداً للمرحلة المقبلة».
وأضاف: «نؤمن بوضوح أن لا وطن من دون عدالة، ولا عدالة من دون إنصاف، ولا إنصاف دون شجاعة قول الحقيقة. نعدكم بأن نكون شفافين في المرحلة المقبلة، وأن نعمل من أجل عدالة حقيقية تنصف الضحايا وتحمّل الجناة مسؤولياتهم».
وفيما يتعلق بالمشهد الحالي، أوضح صوفان أن اللجنة الوطنية تعمل وفق مسارين متوازيين: مسار السلم الأهلي، الذي يحظى بالأولوية لكونه يوفّر الأرضية اللازمة للإجراءات الإستراتيجية المقبلة، ومسار العدالة الانتقالية، الذي انطلق فعلياً بتشكيل اللجنة المعنية بموجب مرسوم رئاسي.
وأشار إلى أن هناك العديد من الخطوات المقبلة قيد الإعداد، وستُعلن في الوقت المناسب وفقاً للظروف والاحتياجات، مؤكداً أن كل مرحلة سيتم الكشف عنها بشفافية عند الشروع بتنفيذها. واعتبر أن مسار الاستقرار في البلاد يحتاج إلى توفر ظروف موضوعية، فالأجواء المضطربة لن توفر الظروف المناسبة لأي مشاريع ممهدة للمصالحة الوطنية.
واعتبر أن العدالة الانتقالية لا تعني محاسبة كل من خدم في مؤسسات الدولة خلال الفترة السابقة، مشددًا على أن المبدأ الأساسي في هذا المسار هو مساءلة كبار المسؤولين عن ارتكاب الجرائم والانتهاكات الجسيمة، وليس ملاحقة كل من عمل في النظام السابق. وأوضح أن الهدف من العدالة ليس الانتقام، وإنما تحقيق توازن حقيقي بين المحاسبة والمصالحة، بما يخدم مصلحة الشعب السوري ويحفظ الاستقرار.
وحذّر صوفان من مغبة الاستعجال في تنفيذ العدالة الانتقالية، معتبرا أن أي خطوات متسرعة أو ذات طابع فردي قد تؤدي إلى الفوضى وتُظهر الدولة وكأنها عاجزة عن القيام بوظائفها الأساسية، مما قد يستجلب تدخلات خارجية لا يُحمد عقباها. وأشار إلى أن المسار الصحيح يجب أن يكون مؤسساتيًا ومدروسًا، يراعي التوازن بين الحقوق والواجبات، ويستند إلى آليات قانونية واضحة.
صوفان: الحكومة منحت صقر الأمان بدلاً من توقيفه في خطوة تهدف لتهدئة الأوضاع
وأضاف أن منطق الثأر والانتقام لن يسهم في تحقيق العدالة، بل سيؤدي إلى تمييع المسؤولية وتمكين مرتكبي المجازر من الهروب من المحاسبة، داعيًا إلى بناء منظومة قضائية متكاملة تضمن عدم الإفلات من العقاب، بعيدًا عن الانفعال وردود الفعل الانتقامية.
وفيما يتعلق بالمصالحة الوطنية والسلم الأهلي، أكد أن منح الأمان لبعض الشخصيات والجهات في مرحلة التحرير ساهم بشكل كبير في حقن الدماء، مشيرًا إلى أن هناك إنجازات كبرى في هذا المجال يشهد بها الجميع، وقد تمت هذه الخطوات ضمن تقديرات دقيقة للمشهد، من أجل الحفاظ على الاستقرار وتفادي مزيد من الخسائر في صفوف القوات النظامية والمدنيين في المناطق الساخنة.
وبرر قبول الحكومة السورية وساطة فادي صقر، موضحا أن القيادة قررت منحه الأمان بدلاً من توقيفه، في خطوة تهدف إلى تهدئة الأوضاع وتخفيف التوترات داخل الحواضن المجتمعية، معتبرا أن هذا النهج القائم على تقدير المصلحة العليا للدولة حقق نتائج إيجابية على الأرض.
وختم بالإشارة إلى أن العديد من الخطوات الهادفة إلى حقن الدماء وتحقيق المصالحة الوطنية قد أُنجزت بعيدا عن الإعلام، حفاظا على سرية الإجراءات ونجاعتها، مضيفًا أن الامتناع عن إعلان بعض هذه التفاصيل كان ضروريًا من أجل ضمان استمرارها ونجاحها في تحقيق أهدافها.
إطلاق الضباط أثار ردود فعل مستنكرة، خصوصا مع انتشار مقطع مصور لسقراط الرحية وهو يتحدث من داخل الحافلة التي أقلت المفرج عنهم، ويوجه الشكر لفادي صقر الذي قاد دور الوساطة في عملية الإفراج.
وينحدر سقراط الرحية من بلدة رأس العين في ريف جبلة، وهو مقاتل سابق في ميليشيات نظام الأسد، شارك في العديد من العمليات العسكرية، كحصار مضايا في ريف دمشق، والقتال على جبهات حي جوبر في دمشق، بينما ينشط حاليا في السلم الأهلي في اللاذقية.
مدير «الشبكة السورية لحقوق الإنسان»، فضل عبد الغني، قال لـ «القدس العربي» إن إطلاق سراح المجرمين وخاصة المعروفين في المجتمع بارتكاب الجرائم مع وجود أدلة موثقة ضدهم، دون توضيح من قبل الحكومة، يسبب حالة من الاحتقان لدى أهالي الضحايا، ويؤدي إلى تأجيج مشاعر الغضب والانتقام.
الحكومة تؤجج مشاعر الانتقام
وأضاف: الحكومة يجب أن تكون شفافة لجهة توضيح الأسباب وراء إطلاق سراحهم، وإذا ما كانت هناك تسوية أو صفقات بشكل واضح ومعلن وشفاف وذلك لحساسية الملف المرتبط بحقوق الضحايا، سيما أنها اعتداءات ليست بسيطة ضدهم بل هي اعتداءات تتعلق بالقتل والتعذيب وإخفاء قسري والقتل بقصف، وجرائم واسعة.
شماس: نعم للمحافظة على السلم الأهلي لكن ليس على حساب معاناة الضحايا وآلامهم
ووصف ما يجري بأنه «عملية خاطئة» حيث أكد أنه «ليس من حق الحكومة الإفراج عنهم، وهو أمر من المفترض أن يكون بيد القضاء والقضاء يجب أن يكون مستقلا عن الحكومة وأجهزتها الأمنية، العملية التي تجري اليوم هي عملية خاطئة».
وأضاف: الأمر بالإفراج عنهم يجب أن يصدر عن القضاء ممثلا بالنائب العام، وهو الذي يحيل إلى المحكمة وهي الجهة المخولة بالإفراج عنهم أو الاحتفاظ بهم بناء على قرار صادر عن المحكمة، وما يجري اليوم بعيد عن المسار القانوني، حيث وزارة الداخلية هي التي تعتقل أو تفرج، وهو ما يدل على حالة من التخبط ويرسل رسالة خاطئة للضحايا أو للمجتمع وهذا يهدد المجرمين بالخطر، وهو ما يرسل بدوره رسالة غير مباشرة لذوي الضحايا بالانتقام وأخذ حقوقهم بيدهم عبر القتل المباشر، ما يدخل سوريا في دوامة من العنف.
جدل حول صقر
ظهور فادي صقر وكثير من الشخصيات القيادية في عهد النظام البائد في صدارة الداعين للسلم الأهلي، وتأمين الحماية الأمنية لهؤلاء، أثار حالة من الحنق والرفض الشعبي لهذا السياسة التصالحية التي تبديها الإدارة السورية الجديدة مع المتورطين بالدم.
«القدس العربي» رصدت ردود أفعال السوريين، حيث كتب الناشط الحقوقي المحامي ميشال شماس يقول: نعم للمحافظة على السلم الأهلي وطي صفحة الماضي الأليم، لكن ليس على حساب معاناة الضحايا وآلامهم.
وخرج الناشط الإعلامي هادي العبدالله في مقطع مرئي قصير بثه عبر صفحته الشخصية على موقع «فيسبوك» منتقدا قرار الإفراج بالقول: السلم الأهلي الذي يشارك فيه فادي صقر، وسقراط الرحية سلم مشوّه.
وأضاف: عندما يصبح الجلّاد وسيط سلام، فإن الضحية تقتل مرتين، مؤكدا أنه من أوجب الواجبات على الحكومة السورية، هو تحقيق العدالة الانتقالية باعتقال ومحاسبة مجرمي الحرب، ولن تهدأ الأمور في سوريا ولن تستقر طالما هناك مجرم حرب خارج السجون.
- القدس العربي