تبدو مصر في العمل على الجبهة الفلسطينية-الإسرائيلية مثل سيزيف في الأسطورة الإغريقية. سيزيف حكمت عليه الآلهة بأن يحمل صخرة كبيرة من الوادي إلى قمة الجبل. وكلما اقترب من القمة، تدحرجت الصخرة إلى الأسفل، وعليه أن يعاود المهمة العبثية التي تتكرر باستمرار. ومصر اختارت بحكم التاريخ والجغرافيا أن تعمل في وقت واحد على ثلاثة أمور مترابطة في النهاية. أولها ترتيب وقف للنار في كل معركة بين “حماس” في غزة وإسرائيل. وثانيها التوسط ورعاية التفاوض على مصالحة فلسطينية-فلسطينية، خصوصاً بين “حماس” و”فتح” الممسِكة بالسلطة والشرعية في الضفة الغربية. وثالثها المساهمة مع قوى دولية في مساعي البحث عن تسوية سياسية للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي.
وقف النار يصمد ويتحول هدنة على مدى أشهر وأحياناً سنوات، ثم تبدأ جولة أخرى من العنف باعتداء إسرائيلي وردّ من المقاومة، بحيث يُعاد تدمير غزة، ويتم العمل على هدنة لإعادة الإعمار. وفي كل جولة، تبدو قدرة “حماس” على الرد أقوى ومعها أحاديث “النصر وتغيير المعادلات”، كما في المعركة الأخيرة التي أوحت الحركة أنها هي التي اختارتها. وإذا كانت “حماس” تربح في كل جولة وإسرائيل تخسر، فلماذا تتوقف “حماس” عن إطلاق النار، وما الذي يدفع إسرائيل إلى تكرار الاعتداءات التي تخسرها من دون أن يحرر الفلسطينيون شبراً واحداً من الأرض؟ المصالحة تبدو مهمة مستحيلة بين طرفين، لدى كل منهما “أجندة” مختلفة. فلا “ميثاق مكة” الذي عملت عليه السعودية جرى تنفيذه بالرغم من التزامه، ولا اللقاءات المتكررة في القاهرة قادت الى اتفاق يتم تنفيذه. أما التسوية السياسية التي عنوانها “حل الدولتين”، فإنها لم تكُن على جدول الأعمال الفعلي في كل حكومات بنيامين نتنياهو. ولا هي على جدول أعمال الحكومة الجديدة المشكَّلة من ثمانية أحزاب من اليمين والوسط واليسار، استبعدت من برنامجها كل القضايا الصعبة التي تفجرها من الداخل.
ذلك أن الخيار الوحيد للسلطة الفلسطينية في رام الله هو التفاوض على التسوية مهما طال الزمن وكثرت العقبات. وخيار “حماس” المُعلن هو المقاومة حتى التحرير من البحر إلى النهر، بصرف النظر عن القدرة وموازين القوى والظروف والحسابات الإقليمية والدولية. فلا “حماس” تستطيع تحرير الأرض، ولا إسرائيل تريد العودة الى احتلال غزة. وليست هناك معركة من دون هدف، إذ هي، إما معركة في حرب شاملة، وإما محطة على طريق التسوية. لكن معركة غزة تبدو كأنها ضمن معادلة: لا حرب ولا سلم. مجرد هدنة ثم معركة، فهدنة. والانطباع الذي تكرّس أخيراً هو أن معارك غزة صارت جزءاً من “أجندة” إيرانية. كيف؟ طهران وصفت قطاع غزة بأنه “الخندق الأمامي لجبهة المقاومة”. وهو توصيف يُطلَق عادةً على لبنان من خلال “حزب الله” ومقاومته. والظاهر أن خطة الملالي في إيران هي ربط الجبهات في غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن لخوض ما تسمّيها “حرب التحرير الكبرى”. وهي عملياً حرب إيران بالوكالة لأهداف أخرى. ولم يكُن قليل الدلالات شكر “حماس” العلني لطهران على التسليح والتمويل.
هل تحدث هذه الحرب بقرار إيراني أم بقرار إسرائيلي-أميركي؟ لا أحد يعرف. لكن السؤال المباشر هو: إلى أي حدّ تتمكن “حماس” من تحقيق التوازن في العلاقات مع مصر العربية و”الفلسطينية” الممسكة بمعاهدة “كامب ديفيد” وبين العلاقات مع إيران التي تزعزع استقرار العالم العربي؟ هل تخلّت “حماس” عن العلاقة مع حركة “الإخوان المسلمين” التي تعتبرها القاهرة منظمةً إرهابية، أم أنها لا تزال فرعاً فلسطينياً منها؟ “حماس” حركة مقاومة، لكنها مشروع خلافة إسلامية، مشروع إخواني. والمقاومة مرحلة في مسار المشروع. ومن دون وحدة وطنية ومصالحة جديدة وحكومة واحدة في القطاع والضفة، فإن التحرير حلم والتسوية في طريق مسدود. وهذا ما يعرفه قادة الفصائل المتصارعون على سلطة لا سلطة لها. مفهوم أن حركة “فتح” التي تمثل التيار الوطني الفلسطيني الواسع، شاخَت. لكن “حماس” الشابة المحكومة بأيديولوجيا والميّالة إلى فرض المحافظة الاجتماعية على حياة الرجال والنساء في غزة، ليست مؤهلة لأن تصبح التيار الوطني العريض.
“اندبندنت عربية”