يهيمن الخلاف التركي – الروسي على الوضع الشامل للمشهد في إدلب والأرياف الملاصقة لها الخارجة عن سيطرة النظام السوري شمال غربي سوريا، إذ تشير المعطيات إلى أن الأسباب البعيدة لتعاظم التصعيد مرتبطة بتزعزع الثقة في العلاقة بين أنقرة وموسكو.
ورغم ذلك يستبعد مراقبون ومحللون في الشأن السوري استئناف العمليات العسكرية على نطاق واسع، بحيث يبقى التصعيد في إطار المناورة والاستطلاع الناري لتقييم قدرة وجاهزية النقاط العسكرية التركية، بغرض الاستعداد لأي سيناريو مستقبلًا.
وغالباً ما تأمل روسيا أن تساهم سياسة الضغط القصوى في ثني تركيا عن اتخاذ أي خطوات تضرب مصالحها في سوريا وخارجها، بينما تعمل القوات البرية بإشرافها، على فتح شرايين الجغرافية السورية الرئيسية وعلى رأسها الطريق الدولي «إم 4» الذي يربط حلب باللاذقية، لاستعجال جني ثمار تدخلها في الملف السوري، وجعل محافظة إدلب التي تؤوي ملايين المعارضين لنظام الحكم، جزيرة معزولة محاصرة في بعض الخيام، بحيث تجبرها على الرضوخ.
ميدانياً، وسعت الحملة العسكرية التي يشنها النظامان السوري والروسي منذ ثلاثة أسابيع على ريفي إدلب وحماة، دائرة القصف، حتى شملت مناطق جديدة شمال وشمال غربي سوريا في ريف إدلب الشرقي ريف حلب الغربي، حيث بلغ تعداد الضحايا 35 شخصاً خلال الفترة الأخيرة من القصف بينهم 8 أطفال وسيدة، كما أصيب نحو 75 آخرون بينهم أطفال ونساء، وسط صمت دولي.
وقالت مصادر محلية لـ «القدس العربي» إن 3 مدنيين وهم شابان شقيقان، وطفل، قتلوا، وأصيب 5 مدنيين آخرين أحدهم بحالة حرجة، أمس، جراء قصف نفذته قوات النظامين السوري والروسي بقذائف المدفعية على مقبرة مزدحمة أثناء تواجد الأهالي في مراسم دفن في ريف إدلب الشرقي.
الدفاع المدني السوري، قال إن قوات النظام وحليفها الروسي، استهدفت بقذائف المدفعية بلدة آفس شرقي مدينة إدلب أثناء دفن أحد الموتى في المقبرة، كما قصفت ريف إدلب الجنوبي في قرى وبلدات كنصفرة وإحسم وبزابور وكفرلاتا، وجبل الأربعين بالقرب من مدينة أريحا، حيث أسعفت فرق الإنقاذ المصابين ونقلت جثامين القتلى لتسليمها لذويهم، وتفقدت الأماكن المستهدفة وتأكدت من عدم وجود إصابات أخرى.
رد تركي ضد النظام
ومضى على اتفاق وقف إطلاق النار في شمال غربي سوريا نحو عام وثلاثة أشهر إلا أن قوات نظام مستمرة بخروقاتها لمنع الاستقرار وإجبار المدنيين على النزوح فمنذ بداية العام الحالي استجابت فرقنا لأكثر من 590 هجوماً من قبل النظام وروسيا، تسببت بمقتل 96 شخصاً بينهم 17 طفلاً و15 امرأة، فيما أصيب أكثر من 235 شخصاً بينهم 39 طفلاً نتيجة تلك الهجمات.
المستشار السياسي محمد سرميني، أشار في حديث مع «القدس العربي» إلى أن منطقة خفض التصعيد شمال غربي سوريا، تتعرض منذ مطلع شهر حزيران/ يونيو 2021 لقصف عنيف غير مسبوق منذ آذار/ مارس، عندما تم استهداف المنشآت المدنية والطبية والاقتصادية عَبْر الاستخدام الكثيف للطيران الحربي والقذائف المدفعية والصاروخية.
وللمرّة الأولى منذ شباط/ فبراير 2020، تقوم المدفعية التركية باستهداف مصادر القصف جنوب إدلب؛ مما أدّى إلى تدمير آلية عسكرية تابعة للنظام السوري ومقتل وإصابة عدد من الجنود.
وقال المحلل السياسي لـ «القدس العربي» إن حملات التصعيد الجديدة تشهد استخدام روسيا لقذائف «كراسنوبول» التي تستطيع إصابة الأهداف الثابتة والمتحركة مُباشَرة وبفرص إصابة كبيرة موجَّهة بأشعة الليزر، ويتم إطلاقها إمّا عَبْر سلاح المدفعية أو الطيران المسيَّر.
ومنذ حملة التصعيد الأولى في آذار/ مارس، قامت تركيا بإعادة توزيع بعض النقاط العسكرية التابعة لها لتصبح على مَقرُبة من نقاط التماسّ مع قوّات النظام السوري في جبل الزاوية جنوب إدلب. مما قد يُشير إلى استعدادها لأي سيناريو يقود لاستئناف العمليات العسكرية في المنطقة.
وأبدى المتحدث اعتقاده أن التصعيد يعود إلى زعزعة الثقة في العلاقة بين تركيا وروسيا، بعدما أدّى التعاون المشترك إلى إرساء وَقْف إطلاق النار مدّة أكثر من 15 شهراً.
وأرجع الأسباب إلى إصرار تركيا على إعادة ترميم العلاقة مع الولايات المتّحدة في الكثير من القضايا من بينها سوريا، بما قد يُضرّ بمصالح روسيا أو يضع المزيد من العوائق أمامها. على سبيل المثال، فإنّ إعادة طرح مُقترَح المنطقة الآمِنة شرق الفرات يعني بالضرورة التعارض مع مذكّرة «سوتشي» (2019)، والتعاون بين واشنطن وأنقرة في ملف المساعدات الإنسانية يُعيق مساعي موسكو لإعادة العمل بالآلية المركزية قبل عام 2014.
كما تحدث سرميني عن عدم رضا روسيا عن الآلية التي يتم فيها تطبيق مذكّرات التفاهم في سوريا مع تركيا، التي تولي اهتماما أكبر لتسوية ملف شرق الفرات على حساب ملف إدلب، الذي ما يزال يشهد تعليقًا لأبرز القضايا الخلافية مثل مكافحة الإرهاب، ومُستقبَل القوات التركية، ومصير حركة التجارة والنقل وغيرها.
ومع ذلك، قال «من غير المرجَّح استئناف العمليات العسكرية على نطاق واسع، باستثناء المناوَرة في إطار الاستطلاع الناري لتقييم قدرة وجاهزية النقاط العسكرية التركية، بغرض الاستعداد لأي سيناريو مُستقبَلاً» وبرأي المتحدث فإن موسكو تأمل في أن تساهم سياستها في ثني تركيا عن اتخاذ أيّ خطوات تُضرّ بمصالحها داخل سوريا وحتى خارجها. وكذلك، في استئناف المفاوضات الثنائية على مستوى الخبراء لحسم ملفّ القضايا العالقة حول إدلب.
ومع استمرار موجة التصعيد واستهداف المدنيين والمنشآت الحيوية في مناطق شمال غربي سوريا بأسلحة متطورة، تلوح في الأفق كارثة إنسانية جديدة بموجات نزوح من تلك المناطق تجاه الحدود السورية التركية التي هي في الأصل باتت مكتظة بالمهجرين والنازحين.
وتعاني مخيمات النزوح في شمال غربي سوريا من نقص كبيرٍ في خدمات المياه والإصحاح والخدمات الإنسانية التي يهدد بازدياد وتيرتها عرقلة روسية باستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لقرار تمديد دخول المساعدات من معبر باب الهوى الحدودي وتحويل دخولها إلى مناطق سيطرة نظام الأسد.
المحلل العسكري العميد مصطفى الفرحات قال لـ «القدس العربي» إن ما يقوم به الجانب الروسي من مناوشات ومعارك وأعمال قتالية هو في الأساس لجني ثمار تدخله في الملف السوري، وأضاف «نحن نعلم طالما أن الشرايين مقطوعة في الشمال فلن تكتمل عملية الهيمنة والسيطرة ولن تكتمل عملية جني الثمار وتسويق الروسي لنفسه أمام المجتمع الدولي، بأنه انتصر وحقق الاستقرار في البلد، وشرع في إعادة الإعمار».
وفي رأي الخبير العسكري، فإن موسكو أمام خسائر عسكرية واقتصادية، لاسيما مع انهيار النظام السوري، وقال «هذا ما أكده خبراء قبل الانتخابات الشكلية التي أجرها بشار الأسد لإعادة انتخابه وتدويره، فإن سوريا تسوف تشهد انهياراً كبيراً، بعدما ضخ النظام كل ما لديه قبل الانتخابات لمحاولة رفع قيمة الليرة السورية وتحسين الوضع الاقتصادي في البلد، وهو ما نراه اليوم من انهيار وهبوط في الليرة السورية».
حلم بوتين
واعتبر فرحات أن اغلاق المعبر بالنسبة لمناطق المعارضة السورية، هو إغلاق أسباب الحياة للشمال السوري وخنقه، وفرض الاستسلام على الناس تحت سلاح التجويع والحصار «والباع الطويلة للنظام باستخدام هذا النوع من الأسلحة ضد المدنيين معروف للجميع، وذلك بهدف دفع الأهالي إلى الاستسلام، لا سيما أن الشمال السوري يعيش تحت رحمة المساعدات».
واستبعد المتحدث، أن تتحقق الرغبة الروسية في هذا الملف وقال «نحن نعلم أن القمم التي أقيمت على الصعيد الدولي سواء على هامش اجتماعات الحلف الاطلسي بين القادة الأوروبيين والجانب التركي، أو بين بوتين وبايدن، ركزت على استمرار المساعدات، كما أصر الرئيس الأمريكي على ضخ المساعدات الانسانية للشمال السوري، وكان رد بايدن بشأن الأسد أنه غير موثوق ولا يمكن التعامل معه».
وفي رأي الخبير العسكري، فإن أقصى ما قد يتحقق هو فتر معابر بين مناطق النظام ومناطق المعارضة في الشمال السوري. وإن فتح الطريق الدولي «إم 4» الذي يربط حلب باللاذقية، هو حلم بوتين بفتح هذه الشرايين لجني ثمار تدخله في الملف السوري ويمكن أن نسمي الحملة العسكرية القائمة بمعارك جني الثمار، حسب وصف المحلل العسكري «لأن هدفها الطرق الرئيسية وهذه الطرق إن بقيت مغلقة ستزيد تكاليف النظامين السوري والروسي من الناحية الاقتصادية لجهة حركة المرور بين الساحل والداخل، كما أنها مكلفة من الناحية السياسية بما أن شرايين الجغرافية السورية مقطعة، ولكن إن تمكنت موسكو من فتحها فسوف تبقى محافظة إدلب عبارة عن جزيرة معزولة في بعض الخيام، وسوف يستطيع بوتين أن يصدر نفسه على أنه المنتصر في الحرب، وقادر على تحسين الوضع الاقتصادي، كما يستطيع توجيه رسالة إلى المجتمع الدولي بأنه حقق ما يريد في الملف السوري، ويجب على المجتمع قبول الأمر الواقع».
ويضغط بوتين من أجل تركيز المساعدات بيد النظام، ورغم شكوكه بموافقة الغرب والجانب الأمريكي، إلا أنه يرفع السقف من أجل الحصول على معبر أو اثنين، بين مناطق المعارضة والنظام.