أظهرت مرحلة ما بعد اغتيال قاسم سليماني، قائد قوة القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني، أوائلَ العام الماضي، حالةَ خلل كبيرة تعرضت لها استراتيجية قوة القدس في العراق، تمثلت أبرز ملامحها في فشل القائد الجديد إسماعيل قاآني في ملء الفراغ الذي خلّفه غياب سليماني، إلى جانب دخول فاعلين إيرانيين جدداً للساحة العراقية لم يكونوا حاضرين بقوة خلال فترة سليماني، فضلاً عن بروز عوامل أخرى تتعلق بالفاعلين العراقيين الشيعة عقّدت استراتيجية قوة القدس في الساحة العراقية.
تُحلل هذه الورقة التغيرات في استراتيجية وعمل قوة القدس في العراق، استجابةً للتحديات المختلفة التي برزت في الساحة العراقية.
مقاربة قوة القدس الجديدة
ارتكز نفوذ ودور قوة القدس في العراق على الفصائل المسلحة العقائدية التي أنشأتها، والتي يُطلق عليها اسم “الفصائل الولائية”، وبخاصة أن هذه الفصائل تفرض سيطرتها على هيئة “الحشد الشعبي”. إلا أن مقتل قاسم سليماني خلق أربعة تحديات لدور قوة القدس في العراق:
الأول، بروز أدوار لجهات إيرانية منافسة، سيما وزارة الاستخبارات (إطلاعات)، ومكتب القائد العام، فضلاً عن وزارة الخارجية، وباتت هذه الأطراف تنازع الحرس الثوري نفوذَه السياسي في العراق بعد مقتل سليماني، والأهم أن بعض هذه الجهات كوزارة الاستخبارات ووزارة الخارجية قد تكون لديها أهداف سياسية في العراق غير متوافقة تماماً مع أهداف الحرس الثوري، كما حصل مثلاً في مسألة اختيار مصطفى الكاظمي لرئاسة الحكومة في مايو 2020، وهو الاختيار الذي دعمتْه وزارة الاستخبارات ووزارة الخارجية برغم وقوف الحرس الثوري ضده. كذلك، وبينما تتبنى الوزارتان الأخيرتان سياسة التهدئة في العراق والإقليم، تجاوباً مع المفاوضات الإيرانية-الأمريكية في فيينا، والحوار الإيراني-السعودي في بغداد، فإن قوة القدس ترى أن إدارة الرئيس الأمريكي بايدن لن تقدم أي تنازلات في الاتفاق النووي دون أن يكون هناك تصعيد منضبط في الساحة العراقية.
الثاني، تصاعد التنافس ضمن قيادات الفصائل الولائية ونزعة بعضها إلى الاستقلالية لإثبات وجودها، الأمر الذي هدّد قدرة قيادة قوة القدس على ضبطها وتوجيهها.
الثالث، تصاعُد حدة النقمة الشعبية في العراق على الفصائل المسلحة، وبخاصة تورط هذه الفصائل في عمليات قمع احتجاجات “تشرين” واغتيال الناشطين، فضلاً عن اتهامات الفساد التي تطاول كثيراً منها، ما يضع الإيرانيين في موضع المسؤولية أمام الجمهور العراقي.
الرابع، تنامي الضغوط الأمريكية على الفصائل الولائية، وإدخال بعضها ضمن منظومة العقوبات الأمريكية، ودخول الفصائل أيضاً ضمن التجاذبات السياسية، الأمر الذي حدّ أحياناً من فاعليتها العملياتية.
في إطار ما تقدم، يبدو أن تغيراً تكتيكياً حصل في استراتيجية الحرس الثوري الإيراني في العراق، وذلك بتقليل اعتمادها المباشر على الفصائل المسلحة الكبيرة والاعتماد على مجموعات نخبوية صغيرة، بحيث ترتبط هذه المجموعات بالحرس الثوري بشكل مباشر من دون أن تكون لها قيادة محلية. فقد كشف تقرير لوكالة رويترز[1] عبر مصادر غربية وعراقية عن تدريب إيران عناصر شيعية عراقية في قواعد لحزب الله في لبنان، للقيام بعمليات تحت الإشراف المباشر للحرس الثوري الإيراني، وبشكل خاص فيما يتعلق بإطلاق الصواريخ واستخدام الطائرات المسيرة وزرع القنابل وجمع المعلومات والترويج الإعلامي. وبحسب التقرير، فإن هذه المجموعات هي المسؤولة عن سلسلة الهجمات التي استهدفت الأصول الأمريكية في العراق.
وفضلاً عن كون هذه المجموعات الصغيرة أكثر قدرة على الحركة وتنفيذ الهجمات بدقة أكبر بمعزل عن التجاذبات السياسية، فإن هناك أسباباً أخرى تتعلق بوجهة نظر إيران تجاه الميليشيات العراقية التي رعتها منذ سنوات، والتي يبدو أنها لم تعد تثق بها مثل السابق، نتيجة لأن بعض قيادات تلك الفصائل تسعى إلى فرض استقلالها أو على الأقل عدم الظهور بأنها إمّعة تابعة لإيران. وجزء من هذا التحرك من قبل قيادات الفصائل جاء بعد اتساع الاحتجاجات ضد التدخل الإيراني في البلاد ورفض الشارع العراقي له، وبخاصة أنه مع اقتراب موعد الانتخابات العراقية في أكتوبر المقبل يريد بعض الساسة المعروفين بولائهم لإيران أن يظهروا بصورة مختلفة بعض الشيء عن السابق.[2] كما أن القيادات الإيرانية مستاءة من سلوك تلك الفصائل، وفقدانها الثقة بعقائديتها، وابتعادها عما تراه طهرانية ثورية وضلوعها في عمليات سرقة وفساد مالي، وانشغالها بالمصالح المالية والاستثمارات.
الدوافع التي تقف خلف التغير في استراتيجية قوة القدس
يمكن القول إن البيئة الداخلية العراقية أفرزت مجموعة من المتغيرات التي دفعت بقوة القدس إلى إحداث تغيير في استراتيجيتها في العراق، من أهمها:
- البحث عن مخارج استراتيجية جديدة بعد سلسلة من التمردات الفصائلية، والإجراءات الحكومية التي اتخذتها حكومة مصطفى الكاظمي التي استهدفت نفوذ الفصائل القريبة منها سياسياً واقتصادياً وأمنياً، والتي كان آخرها اعتقال قائد عمليات الحشد الشعبي في الأنبار قاسم مصلح، المقرَّب من قوة القدس، والمتهم بانتهاكات لحقوق الإنسان وعمليات فساد مالي. وكان لافتاً حالة التناقض للمرة الأولى ضمن مواقف قادة الفصائل المسلحة بشأن الحادثة وصلت إلى درجة تبادل الاتهامات، وتنامي المخاوف من تفكك منظومة الحشد الشعبي.
- تجاوز حالة الخلل في التوازن الاستراتيجي الإيراني في العراق بعد اغتيال سليماني، خصوصاً على مستوى ضبطها وإخضاعها لمركزية قوة القدس، وفشل قاآني في مواجهة تحديات النفوذ الإيراني في الساحة العراقية. ويُذكر هنا أن قاآني نفسه يواجه منافسة كبيرة من الجنرال أصغر حجازي المسؤول العسكري في مكتب القائد الأعلى، الذي أصبح اليوم المسؤول الأكثر نفوذاً على فصائل مسلحة عديدة، منها كتائب حزب الله وحركة النجباء.[3]
- خلق حالة مواءمة بين الأدوار الاستراتيجية التي تقوم بها الفصائل الكبيرة، والأدوار التكتيكية التي تقوم بها المجموعات والخلايا الناشطة، لفرض مزيد من الضغوط في الداخل العراقي، عبر نمط القيادة من الخلف وتعزيز الأوراق التفاوضية الإيرانية.
- أثارت الحوارات الإيرانية-السعودية من جهة، والمفاوضات في فيينا من جهة أخرى، حفيظة العديد من الفصائل الكبيرة، وتحديداً القريبة من قوة القدس، من إمكانية التضحية بها، مقابل رفع العقوبات أو تخفيف الضغوط على إيران، ما دفعها مؤخراً إلى التمرد على الأوامر الإيرانية، وهو ما دفع مسؤول ملف الفصائل المسلحة العراقية في قوة القدس حيدر أفغاني إلى تقديم طلب بنقل خدماته خارج العراق بسبب عدم قدرته على ضبط الفصائل، وهو ما تحاول المقاربة الجديدة تجاوزه خشية خروج الأمور عن السيطرة.[4]
- تُعوّل قوة القدس كثيراً على تأثير الفصائل الولائية في ترسيخ وإدامة نفوذها، وبالتالي فإن الخلافات المتصاعدة بين قيادات بعض الفصائل حول المنافع الاقتصادية وانتزاع مركزية القرار الفصائلي، ستنعكس بصورة مباشرة على طبيعة دور قوة القدس، وهو ما يبرر زيارات قاآني المكوكية إلى العراق للسعي إلى وضع حد لهذه الخلافات ومعالجتها.
التداعيات المحتملة في الداخل العراقي
من المحتمل أن يُفرز التغير في استراتيجية قوة القدس العديد من التداعيات المؤثرة على الساحة العراقية، والتي يمكن إجمال أهمها على النحو الآتي:
- تصعيد الهجمات على المقرات والمواقع التي توجد فيها القوات الأمريكية، سواءً عبر صواريخ الكاتيوشا أو الطائرات المسيرة. وهنا لا يمكن إغفال أهمية السلاح الجديد وهو الطائرات المسيرة، فوفقاً للجنرال فرانك ماكنزي، قائد القيادة الأمريكية الوسطى، فإن مواجهة الطائرات المسيرة للمسلحين المدعومين من إيران في العراق تمثل أولوية.[5]
- إن استمرار الخلافات وغياب التنسيق بين قوة القدس والجهات الإيرانية الأخرى الفاعلة في الداخل العراقي، وهو ما أشارت إليه التسريبات الأخيرة لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، يؤدي إلى مزيد من حالة عدم الاستقرار الأمني، إلى جانب إمكانية توسيع فرص الخلاف والتنافس بين الفصائل الشيعية المسلحة متعددة الولاءات والانتماءات.
- يؤشر التطور الأخير في الداخل الإيراني، بعد إصدار قائمة المرشحين الذين يحق لهم خوض الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة، إلى تصاعد نسبة فوز تيار المتشدد/الثوري في هذه الانتخابات، وهو ما قد يعني تعزيز قوة الحرس الثوري، الأمر الذي سينعكس سلباً على الداخل العراقي.
استنتاجات
إن توجه قوة القدس نحو إحداث تغيير في استراتيجيتها في العراق جاء نتيجة جملة من التحديات، في الداخلين العراقي والإيراني على حد سواء، فضلاً عن الضغوط الأمريكية المستمرة، سواء عبر المفاوضات النووية أو الحوارات الإقليمية. وتميل قوة القدس بشكل متزايد نحو إعادة هندسة نفوذها في العراق، من خلال الاعتماد على المجاميع الصغيرة في عمليات “المقاومة”، مع الإبقاء على دور وتأثير الفصائل الكبيرة المنضوية ضمن “الحشد الشعبي”.
وإجمالاً يمكن القول إن الساحة العراقية ستواجه مزيداً من التحديات الأمنية والسياسية المرتبطة بطبيعة الأدوار المقلقة لقوة القدس عبر الفصائل والخلايا التابعة لها، وهذا ما أشار إليه القائد العام للحرس الثوري اللواء حسين سلامي في 29 مايو 2021 بالقول إن المنطقة لن تشهد استقراراً في عهد جو بايدن،[6] ويبدو أن جزءاً من حالة عدم الاستقرار ستكون في العراق.
الهوامش
[1] John Davison and Ahmed Rasheed, “EXCLUSIVE In tactical shift, Iran grows new, loyal elite from among Iraqi militias,” Reuters, May 21, 2021. https://reut.rs/3wwsXHp
[2] مينا العريبي، “الاستراتيجية الإيرانية الجديدة وتداعياتها على العراق والمنطقة”، الشرق الأوسط، 25 مايو 2021. https://bit.ly/34RMvKF
[3] “Iraq: Iran’s competing power centers are creating havoc in the country,” Middle East Eye, 17 March 2021. https://bit.ly/3oZtpLI
[4] “Iraq armed groups’ defiance prompts Iranian official to quit,” Middle East Eye, 21 May 2021. https://bit.ly/3yNV86A
[5] “نيويورك تايمز: القوات التي تحارب بالوكالة عن إيران في العراق تهدد أميركا بأسلحة أكثر تطوراً”، إيران إنترنشنال، 6 يونيو 2021. https://bit.ly/3cgUZPF
[6] “الحرس الثوري لا يرى استقرارا بالشرق الأوسط مع إدارة بايدن”، سكاي نيوز عربية، 29 مايو 2021. https://bit.ly/3wZSLfl