بداية ماذا يعني أن نتفلسف؟ هل الفلسفة عبارة عن رطانة لغوية غير مفهومة، أو تأملات مجردة لا تمت للواقع ولحياة الإنسان بصلة؟ هكذا ظل مفهوم الفلسفة لمئات السنوات. فما أن تذكر الفلسفة حتى يتبادر للبعض الصورة الشائعة عن الفيلسوف شارد الذهن وهو يتأمل السماء، ولا يرى ما تحت قدميه.
هكذا يبدأ كتاب «أحفاد سقراط» للكاتب علي حسين عن الفيلسوف طاليس المالطي الذي كان يمشي رافعا رأسه إلى السماء، ومنشغلاً بتأمل النجوم، حتى وجد نفسه قد وقع في حفرة لم ينتبه إليها، هذا المشهد أثار المرأة التي كانت تتابع طاليس، فعندما رأت الشيخ المهيب يسقط في حفرة أطلقت ضحكة عالية وهي تقول له: «أنى لك أن تتعلم كل شيء عن السماء يا طاليس، وأنت لا تستطيع أن ترى ما تحت قدميك؟».
من هذه الضحكة التي أطلقتها المرأة تبدأ قصة الفلسفة كما يرويها الكاتب لنا. أنا أندهش إذن أنا أتفلسف، تحت هذا الشعار تبدأ الحكاية كلها من الدهشة والتساؤل،
فالدهشة هنا هي البداية التي انطلقت منها رحلة التفلسف، فما إن يندهش العقل حتى يغادر منطقة الراحة والكسل، ويكون مستعدا لصناعة السؤال الذي يستند إليه الوجود برمته. وهذا السؤال هو شرط الكينونة، والمعنى الحقيقي لأن تكون إنسانا. الدهشة التي بدأت عند فلاسفة ما قبل سقراط، أو الفلاسفة الطبيعيين، هي شعور متكرر بالجهل، والمصحوب بعاطفة من الأحاسيس دفعتهم إلى أسئلة تبدأ بـ…لماذا؟ بدأت اليقظة الفكرية عند هؤلاء الفلاسفة عندما قاموا بهدم جميع الأصنام الفكرية والمسلمات عن الظواهر الطبيعية، التي كانت مرتبطة بالآلهة والأساطير. هكذا بدأ التفلسف هنا على طريقة العلماء، الذين قدموا الكون ككينونة واحدة متكاملة، لتخضع لقوانين ثابتة يمكن فهمها من خلال المنهج العقلاني.
لكن الفلسفة هنا ظلت مشغولة بالسماء والكون، ولم تلتفت إلى الفرد بوصفه كيانا ضمن هذه المنظومة الكونية، فالثيمة السائدة عند الفلاسفة الطبيعيين كانت، لا تفرق بين الذات والموضوع، أو العالم الخارجي، لذلك لم تلتفت كثيرا لمشاكل الإنسان ورؤاه وعلاقاته مع الآخر. وهذا ما يفسر لنا ضحكة المرأة العفوية، وهي تشاهد طاليس يسقط في الحفرة أثناء انشغاله بالتأمل المتعالي، وإهماله لأبسط الأمور والجزئيات التي تخص حياته.
الشك والمحاججة لتوليد الحقيقة
كان سقراط من أوائل الفلاسفة الذين أنزلوا الفلسفة من السماء إلى الأرض
لتتأمل حال الإنسان وأحواله، إذ كان يلقي خطبه في الأسواق والشوارع،
محاولا دفع الناس إلى التفكير من خلال الشك بالموروث البالي، وبكل ما ينافي العقل، لذلك تبدأ الفلسفة عند سقراط بتبني الشك في المعتقدات التي يحبها الإنسان، وبالحقائق والمعتقدات التي يقدسها، وإعادة صياغة أفكار الناس عن الحياة بتعزيز الحس النقدي الذي يولّد بدوره آليات لإنتاج الحقيقة، أما الفضيلة عند سقراط فهي دعوة دائبة لإعمال العقل، إذن فالمنهج الذي يتبعه سقراط هو معالجة الخلل في نمط التفكير وطريقة الحياة، ومعرفة النفس أكثر لتسمو بالمعرفة والفضيلة.
امتلك سقراط قدرة قوية على المحاججة والجدال، واستطاع أن يفلسف الأشياء الغريبة على حد تعبير نيتشه، حتى أدخل الفلسفة إلى أبسط الأشياء في حياتنا اليومية كغرف النوم وغيرها من الأمور الدقيقة. حوكم سقراط بتهمة إفساد عقل الشباب والتطاول على المقدسات الإلهية في أثينا، وكانت آخر كلماته قبل الإعدام.. هذا لا يحزنني بل يسعدني أني انتصرت، إن الناس يعدون الموت أكبر الشرور وأقساها، إلا أنني أخالفهم في ذلك، وأفضل الموت حراً على أن أعيش عبداً». فكم من سقراط في تاريخ البشرية، عذب وقتل وحرق، لأنه قام بتحطيم موروثات السلف وأصنامهم. علينا أن نعرف أنفسنا حقا وأن نفكر خارج القطيع… والمنظومة الجامدة.
الفلسفة هي مغامرة وارتحالات بين الفكر، فتحسين جودة الفكر ومعالجة أنماطه هو تحسين في جودة الحياة، أن نتفلسف معناها أن يكون هناك فائض في السعادة، ووفرة في الحياة خارج أعمارنا الرتيبة.
مفاهيم فلسفية لفن العيش
حفل كتاب «أحفاد سقراط» بمجموعة من المفاهيم الفلسفية التي تساعدنا على مواجهة أزمات الحياة، وكذلك عن دور الفلسفة في صناعة مجتمع مدني حر يقبل التعدد والاختلاف، إضافة للرؤية الفلسفية التي تجعل الإنسان في تناغم وانسجام مع العالم.
فها هو العالم قد استعاد مفاهيم الرواقية والأبيقورية في عصرنا الحديث، وتحديدا في فترة وباء كورونا، فالرواقية تعلمنا طريقة جديدة في إصلاح أنماط التفكير، فالخلل ليس في الأشياء، وإنما في حكمنا على الأشياء؛ لذا يجب أن يعمل العقل بمقتضى قوانين الطبيعة، والأحداث التي تجري لا بد لها أن تجري، فلا جديد تحت الشمس، فالبؤس والشقاء يأتي من الرغبة المتزايدة لأشياء من العالم الخارجي، والإهمال التام لعالمنا الداخلي، الذي تختفي في داخله كنوز الخير والفضيلة، إضافة إلى تأويلنا الخاص للأحداث والحكم المسبق عليها، الذي يولد الانفعالات السلبية، فالتمثلات الخاطئة التي نحملها في أذهاننا سرعان ما تصبح محددا لسلوكنا وتصرفاتنا.
وتعلمنا الأبيقورية الإقبال على الحياة، واصطياد كل لذة ما دامت لا تولد شقاء وحسرة في النفس، ويأتي ذلك من خلال تحرير الإنسان من سطوة الخوف التي سيطرت عليه قرونا طويلة، وأهمها الخوف من الله، والخوف من الموت الذي هو أساس كل المخاوف، وهو الذي يولد الأهواء الحزينة على حد تعبير سبينوزا، وهي في ذاتها غرائز الانحطاط التي تكلم عنها نيتشه، والتي تساهم في تدهور قيم الحضارة والمدنية، لذلك أراد نيتشه للإنسان أن يتحلى بإرادة القوة، وأن يتفوق على نفسه وعلى أخلاق العبيد من خلال صناعة قيمه العليا.
خريطة الفكر من عصر الأنوار إلى القرن العشرين
عندما يتطرق الكتاب إلى فلاسفة عصر النهضة، مرورا بالحداثة وما بعدها في القرن العشرين، فإننا لا نكتفي بمجرد الإصغاء لتاريخ حياة الفيلسوف وعلاقاته والظروف التي كتب على إثرها مؤلفاته، بل علينا هنا أن ننتزع المفاهيم انتزاعا في ما لم يقله الكاتب، أو على الأقل ما لمح به سريعاً ومضى. يمكننا صياغة منظومة كاملة للحياة عندما نقرأ لفلاسفة مثل جون لوك ومونتيسكو وجان جاك روسو، هؤلاء هم الآباء الروحيون الأوائل الذين وضعوا دساتير حقوق الإنسان، وقاموا بتأسيس السلطات التشريعية والتنفيذية والفصل بين السلطات، وإعطاء الإنسان الحرية في التعبير والمعتقد، داخل الدولة المدنية، وتحديد الواجبات المنوطة بأشكال الحكم الملكية والجمهورية، دون المساس بكرامة المواطن، هذا الاحترام للحقوق والمعتقدات والآراء هو ما نفتقد له في بلادنا العربية والإسلامية، ذات النزعة الأصولية والتفكير الأحادي واحتكار الحقيقة.
يمكننا أن نتعلم من ديكارت المنهج السليم في التفكير واستخدام العقل استخداما صحيحا بعيدا عن الخرافات والغيبيات، وأن نعطي قيمة ومعنى للحياة، كما يعلمنا ميشيل دي مونتاني في فلسفة غايتها إشاعة الطمأنينة والسلام داخل النفس. وأن نكون أحرارا في اختياراتنا وقراراتنا، بوصفنا كينونات متعددة ومختلفة، هدفها التناغم مع العالم وحركة الوجود، فالحرية مسؤولية قبل كل شيء، كما يعلمنا سارتر وميرلو بونتي.
بقي أن نعرج على مفهوم مهم من المفاهيم الفلسفية لصناعة عقل متفلسف، أو زيادة في تنمية الوعي النقدي؛ وهو مبدأ عدم اليقين لكارل بوبر، حيث ينطلق بوبر من أي قضية كانت، ويلجأ إلى إثبات خطئها بدلاً من صوابها، وصولاً للتصويب الدقيق للأخطاء والاقتراب من الحقيقة. وقد طبق مبدأ عدم اليقين على كثير من القضايا الفكرية والسياسية، ونادى بالمجتمع المتعدد والمفتوح على المعارضة والإرادة الحرة، وعلى السياسة الدائمة للنقد والنقد الذاتي. إذن هل يكفي أن نندهش لنتفلسف فقط؟ وماذا بعد التفلسف؟
الفلسفة هي مغامرة وارتحالات بين الفكر، فتحسين جودة الفكر ومعالجة أنماطه هو تحسين في جودة الحياة، أن نتفلسف معناها أن يكون هناك فائض في السعادة، ووفرة في الحياة خارج أعمارنا الرتيبة.
كاتب عراقي