لا تكفّ الحرب الأهلية في اسبانيا (1936-1939) عن استيلاد جاذبية فريدة تدفع إلى كتابة أو تحرير او توثيق النصوص الأدبية والسياسية والمذكرات والأعمال الفنية في المسرح والتشكيل والسينما والموسيقى؛ وكأنّ الفترة القصيرة من عمر تلك الوقائع ليست البتة قصيرة إلا بمقاييس زمنية كلاسيكية، أو لعلها أكثر احتشاداً بالمعنى والمغزى والدرس والأمثولة من أن تُستهلك حتى بعد انقضاء 83 سنة. ورغم أنّ هذه السطور غرقت، مراراً، في ملفات تلك الحرب لأسباب مختلطة تُدرج الثقافي والإبداعي والتاريخي والسياسي، فإنّ موجبات «الغرق» ذاك يصعب أن تخسر شيئاً من جوهرها الفضولي الطاغي، الذي يتخذ استطراداً صفة الحافز البحثي والاستطلاعي.
لا غرو، كما تقول الفصحى، إذا راودت الخاطر أسماء الكتّاب والفنانين الذين تطوعوا للقتال في تلك الحرب إلى جانب الجمهوريين، وانخرطوا في هذه أو تلك من «الألوية» التي انتسبت تسمياتها إلى تراثات كفاحية وشخصيات نضالية محلية وكونية في آن معاً: لواء لِنْكِن الأمريكي، وغاريبالدي الإيطالي، وتالمان الألماني. لم تتوفر تسمية ذات مرجعية مشرقية أو عربية، في حدود ما تعلم هذه السطور، رغم وجود متطوعين من المغرب والجزائر والعراق ومصر وإيران. في عداد المقاتلين النجوم، إذا جاز التعبير، توفّر أمثال بابلو نيرودا، سيزار فاييخو، أوكتافيو باث، ألكسي تولستوي، إرنست همنغواي، بول روبسون، جون دوس باسوس، أندريه مالرو، سانت – إزوبيري، كلود سيمون، ستيفن سبندر، لويس ماكنيس، و. هـ. أودن، جورج أورويل، كريستوفر كودويل…
إذا كان تكريم متراس فلسفي مضادّ للرصاص هو أحدث كشوفات الحرب الأهلية الإسبانية الفريدة، فكيف للمخيّلة أن تخذل الباحث عن جديد، في قلب كلّ جديد
وتقتضي الإشارة هنا، من دون إبطاء، إلى أنّ هؤلاء قاتلوا في سبيل قضية مركزية هي نصرة الجمهوريين ضدّ الفاشية العالمية عبر وكيلها المحلي الجنرال فرانكو؛ لكنهم، وليس الهدف أقلّ انطواء على رسالة نبيلة، كانوا في الآن ذاته يخوضون معارك شرسة في دروب تثبيت حداثات شتى، شعرية وروائية وتشكيلية وموسيقية. ففي الصفوف الإسبانية تولى الطلائع أمثال رفائيل ألبيرتي، أنطونيو ماشادو، ميغيل هرنانديز، فدريكو غارثيا لوركا، بابلو بيكاسو، وخوان ميرو؛ فكسبت الإنسانية عدداً من أثمن الأعمال الإبداعية، ويكفي اقتباس لوحة بيكاسو الأشهر «غيرنيكا»، وعمل خوان ميرو «سلسلة الأسود والأحمر». وأمّا في الصفّ الأممي، فقد قدّم كودويل كتاب «الوهم والواقع»، الذي يُعدّ أوّل إسهام معمّق في صياغة علم جمال ماركسي حول الشعر؛ كما كتب أودن قصيدته «اسبانيا»، ونشر أرويل «تحية إلى كاتالونيا»، ومثله فعل همنغواي في «لمَن يُقرع الجرس»…
وهذه السطور تجد مغزى بالغ العمق في شطر آخر من حراك الحديث والحداثة، هو تفعيل موقع المرأة؛ الأمر الذي أحسن تغطيته كتاب «الكاتبات الاسبانيات والحرب الأهلية الإسبانية»، تحرير ماريلين بيدر وروبرتا جونسون، الذي صدر بالإنكليزية سنة 2017 ضمن منشورات راوتلدج، وتناول إسهامات مختلفة انفردت بها المرأة الإسبانية. التاريخ اللاحق سوف يبرهن أنّ موقع المرأة في معادلات التجربة لم يقتصر على الدفاع عن القِيَم الجمهورية وحدها، ولا امتلاك الحقّ في الحداثة والتقدّم فقط؛ بل، كذلك، صيانة حقوق المرأة الجوهرية التي سيعيدها النظام الفاشي إلى القوانين النابليونية لعام 1889!
مناسبة هذه السطور، بالتالي، هي أحدث المؤلفات في مضمار تغطية تلك الحرب: كتاب غايلز تريمليت «الألوية الأممية: الفاشية، الحرّية، والحرب الأهلية الإسبانية»؛ الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية عن بلومزبيري، وينفرد، أكثر، بالتركيز على جوانب إنسانية وتفاصيل يومية وانحياز أوضح إلى المكان وخصائصه. نعرف، أفضل في الواقع، الكثير الجديد عن اللواء الأممي الأمريكي مثلاً؛ في أنّ أفراده قدموا من مختلف المناطق والولايات، وتألف من بحّارة وطلاّب وعاطلين عن العمل وعمّال مناجم وأساتذة وعمّال فراء وحطّابين وباعة متجولين، ورياضيين وراقصين، فضلاً عن الأدباء والفنّانين. نعرف، كذلك، أنّ قائد اللواء كان أفرو-أمريكياً، وتلك سابقة ذات دلالة خاصة لا تخفى.
يصحّ التذكير، أيضاً، أنّ خمسينيات القرن المنصرم شهدت، في إطار المكارثية وما سيُعرف في التاريخ الأمريكي الحديث باسم «هستيريا العداء للشيوعية»، إخضاع أفراد «لواء لِنْكِن» إلى حملة تنكيل منظمة شنّتها أجهزة مكتب التحقيقات الفيدرالي، شملت سلسلة إجراءات زجرية شديدة بينها المحاكمة والتوقيف والطرد من الوظائف. واليوم يقول أصحاب الضمائر من مراجعي التاريخ الأمريكي إنّ تلك الحملة كانت وصمة عار بحقّ مجموعة من أنبل المواطنين، أعطوا بُعداً مختلفاً تماماً للشخصية الأمريكية، وكانوا أشبه بروّاد سعاة إلى إقناع البشرية بأنّ الأمريكي يمكن أن يكون أفضل بكثير من تمثيلاته المألوفة الراسخة في الوجدان الكوني: راعي البقر قاتل «الهنود الحمر»، العنصري عضو «كو كوكس كلان»، أو صانع القنبلة النووية وقاذفها…
وبين أبهى أجزاء كتاب تريمليت ذلك الفصل المعنون «كتب مضادة للرصاص: المدينة الجامعية، مدريد، تشرين الثاني/ نوفمبر 1936»؛ الذي يسرد اضطرار المقاتلين الجمهوريين إلى التمترس خلف رشاش منصوب قبالة إحدى نوافذ المكتبة المركزية، وتحصينه من مختلف الجوانب بعشرات الكتب السميكة المجلدة. ولقد اتضح أنّ الرصاص المعادي يمكن أن يخترق الكتاب حتى الصفحة 350، وبالتالي اختار المقاتلون مجلدات الميتافيزيقا الهندية والفلسفة الألمانية خلال القرن التاسع عشر!
فإذا كان تكريم متراس فلسفي مضادّ للرصاص هو أحدث كشوفات الحرب الأهلية الإسبانية الفريدة، فكيف للمخيّلة أن تخذل الباحث عن جديد، في قلب كلّ جديد!
“القدس العربي”