في رواية «نزلاء الحرّاش» الصادرة عن دار ضمة للنشر ـ الجزائر 2021 يمضي الروائي الجزائري الحبيب السائح خطوة إلى الأمام في مشروعه الروائي، بعد أن أصدر «كولونيل زبربر» «أنا وحاييم» و «ما رواه الرئيس» في تتبع الحقبة الاستعمارية وحرب التحرير وسنوات الاستقلال، التي شابها الكثير من الإرهاصات في سعي دؤوب للبحث عن شكل الدولة، الذي يلبّي تطلعات إنسان هذه الأرض التي قدّمت مليون ونصف مليون شهيد.
ما بين التاريخ والخيال المنبثق من التاريخ يقدّم السائح رؤية متكاملة حول تفاصيل وشخصيات كثيرة، سقطت من الكتب والدراسات التى تُعنى فقط بالأحداث والنتائج والقادة، ولا تلتفت إلى اللحظات الأخيرة للمجاهدين والمجاهدات، الذين لفظوا أنفاسهم نتيجة للبرد القارس في الجبال، أو نتيجة لرصاص المستعمر أو شفرة المقصلة أو حبل المشنقة.
ما زال أمامنا مليون ونصف مليون حكاية بانتظار سردها، وآلاف الحكايات الأخرى في العشريّة المعروفة.
العمل الجيد لا يمكن تلخيصه، لأنه متشعب ومتداخل ومتوالد، كما أن اللغة جزء أساسي من الرواية، فكيف يمكن تلخيص اللغة؟ ما أرمي إليه في هذه السطور هو تأكيد مقولة عنوان المقال من خلال إبراز الجزئيّة التي تصدّى لها، على أن عشرات الجزئيّات ما زالت في انتظار من يكشفها، ويتحدث بها.
رواية أجيال؛ جيل ما قبل حرب التحرير، وجيل التحرير، وجيل ما بعد حرب التحرير، لم يظهر الجيل الأول في الرواية بشكل واضح كالجيلين اللاحقين، لكن بدرت بعض الإشارات إلى حركة مقاومة المستعمر منذ بدأت نواياه الإحلاليّة والاستيطانيّة تتضح أمام الجزائريين من شتى الأعراق والأديان. ثم جاء جيل حرب التحرير من خلال شخصية الأب منصور شملول المجاهد في حرب التحرير، الذي ظلّ متمسّكًا بالمثل العليا للثورة، في حين انتهج بعض رفاقه منهجا مغايرا وتعرّض للملاحقة والاستهداف من قبلهم لمواقفه التي لم تتبدّل. شملول الأب هو الصورة المشرقة للثورة التي وصفها في حديثه مع ابنته حبيبة: «ولستُ اليوم، وأنا في هذه الزنزانة، التي رفعتُ السلاح لإنهاء وجودها، سوى واحد ممن جهروا بالحقيقة التي عاشوها خلال حرب تحرير لم تكن بين إخوة السلاح نقيّةً تماما». شملول الذي ظل يتذكر حسناء رفيقة السلاح التي روت بدمائها ودماء آلاف الشهيدات شجرة الحرية التي كبرت وكبرت، ثم كانت المفارقة ليأتي من أبناء هذه الشجرة من أساء إليها. الأمر الآخر الذي لفتني هو مذكرات الضابط الفرنسي فيليب لاركي وهي إشارة ذكية إلى وجود رأي آخر في ما حدث من وجهة نظر المستوطنين الفرنسيين، لكنها كانت في مجملها شهادات منقوصة تقوم على المبالغة والتهويل.
رواية أجيال؛ جيل ما قبل حرب التحرير، وجيل التحرير، وجيل ما بعد حرب التحرير، لم يظهر الجيل الأول في الرواية بشكل واضح كالجيلين اللاحقين، لكن بدرت بعض الإشارات إلى حركة مقاومة المستعمر منذ بدأت نواياه الإحلاليّة والاستيطانيّة تتضح أمام الجزائريين من شتى الأعراق والأديان.
جيل الأبناء؛ فيصل الصحافي، ومحمود الأستاذ الجامعي، والحسين المقاول الذي يظهر بصورة لا يرضى عنها الأب المخلص للمصالحة الوطنية. عبد المعطي كرّاف «أبو قتادة» المنتمي للتيارات المتشددة خلال الحرب الأهلية يغتال محمود الأستاذ المؤمن بضرورة التغيير، فيقوم الحسين بالثأر لمقتل أخيه ويُسجن في الحرّاش، ويتمكن من خلال دفع الرشاوى، حماية نفسه ثم الفرار من السجن ذي السمعة السيئة. الحسين لا يؤمن بجدوى تضحية أبيه وأمه جوهر الأندلسي في الحرب، بينما يرى فيصل أن الصحافة إحدى دعامات المجتمع المدني والحرية وحقوق الإنسان. يشارك هو وحبيبته الصحافية نبيلة المرملي في الحراك الذي يطيح بالرئيس أو «ربّ الدولة» كما أُطلقوا عليه في تضاعيف الرواية. الرئيس الذي اخترق الدستور منذ الولاية الثالثة، وكان يسعى لولاية خامسة، فسقط تحت وطأة حراك 22 فبراير/شباط بعد عشرين عاما من الحكم الفردي، تفشّى خلالها الفساد في مؤسسات الدولة.
ولم تنقضِ صفحات الرواية دون أن تطفو مسألة الهوية على السطح من خلال شخصية مومن شتوري، الذي قتل جارته الأستاذة الجامعية عالية ترغاس. أشارت نتائج التحقيق إلى دوافع سياسية، حيث كانت ترغاس ناشطة في هذا المجال وتبدي رأيا مخالفا لرأي دوائر السلطة، وتنتقد المآلات الاقتصادية السياسية والاجتماعية التي أفرزتها سياسة الحزب الواحد. لكن يتضح لاحقا أنّ مومن من أصول يهودية، وقد أخفت أمه هذه الحقيقة لتعود وتظهر من جديد في بحث للدكتورة ترغاس عن اليهود الذين لا يعون خلفيتهم الدينية والثقافية لسبب أو لآخر. يغرّر به صديقه ويحرضه على قتل ترغاس، بعد أن يدفع له ببعض حبوب الهلوسة التي تُذهب عقله.
لم تقتصر شخصية مومن على هذه المسألة المهمة فقط، بل تجاوزتها إلى ما هو أشد وأقسى، حيث رسمتْ تفاصيل المشهد الذي صوّر وحشية السجون بأبشع صورها. تُطمس شخصية مومن الذكورية بالقوة والإكراه على يد سجين شاذ، يجبره على التّشبّه بالفتيات سلوكًا وشكلًا واسما، لتلبية شذوذ المساجين حتى نسي مومن هويته الجنسيّة. ظهر أدب السجون في مواضع كثيرة من الرواية، وما هذا الخلل الفادح في معاملة بعض النزلاء من المسؤولين السابقين، سوى تتمّة لحلقة الفساد المستشري في مفاصل الدولة ومنها سجن الحرّاش، الذي قالت عنه إحدى الشخصيّات:
«إنها متلازمة سجن الحرّاش، باعتباره مجتمعا مصغّرا للوحشيّة والقسوة ونفي الإرادة. أي، خلاصة القهر المؤدي إلى العدم. في الحرّاش وحده تدرك أنّ الصمت من حولك يصير حيطانا باردة كابسة وقاسية. فالسجن، ومن غير أن يعلن لك ذلك ببيان منشور أو إعلان في مكبرات الصوت، يعلّمك درسه الأول، منذ الصباح الموالي لدخوله: لا تثق في أحد، ويفصلك نهائيّا عمّا يمكن أن ينسيك إيّاه وظروفه».
تجدر الإشارة إلى الاشتغال اللغوي الذي أخذ من وقت الكاتب وجهده الشيء الكثير كما أقدر. وهذا أمر يحتاج إلى عناد أكثر من المثابرة، وهو من المواضع القليلة التي ينقلب فيها العناد إلى صفة إيجابية؛ ساعات طويلة من العمل للبحث عن الكلمة الدقيقة أو الكلمة الأصيلة، التي وُضعت كمُسمّى للأشياء، بعيدا عن الاجتهاد غير المقنع والكلمات البديلة التي تؤدي بعض المعنى وليس كل المعنى. وقبل أن أورد فقرة تؤكد ما ذهبتُ إليه، وهي مثال واحد من بين عشرات الأمثلة الأخرى، لا بدّ من التنويه بالمستوى الأعلى من اللغة وهو الجملة التي جاءت متجدّدة: «من كان يسمع هسيس سفا سنابل القمح الصلب ينبئه بأزوف حصادها. وكان له أن يميّزها، من سنابل القمح اللين، بلونها الأصفر الضارب إلى البنيّ. وكان له أن يقدّر درجة تيبّسها وصلابتها بأن يسحق بين كفّيه إحداها وينفخ على قشورها فيعدّ حبّاتها بين ثلاثين وخمسين ثم يقضم إحداها بين أسنانه. أمّا أثر غمغمة محرّك الحاصدة، بمِحَشّها وجهاز درسها وغرابيلها، مثلما رأى أباه يفكّكها ويعيد تركيبها، ودحرجة الشكارة مربوطةً ممتلئةً عبر المِنزل لتسقط ساحقةً قصب الحصاد، فكان يخلّف في نفسه شعورا بأنّ هناك تناغما وجوديّا يحصل في تلك اللحظات بين الإنسان والآلة والأرض لا تصفه الكلمات».
كاتب من الأردن
“القدس العربي”