ما أجمل رسالة مصطفى لطفي المنفلوطي وما أبلغها عندما تناول مسألة ملأت الدنيا وشغلت الناس ولا تزال.. وما أكثرها تطابقاً مع رهانات اليوم التي تؤرق مضجعنا في كل دقيقة.. فلنستمع أولا:
«استيقظت فجر يوم من الأيام على صوت هرة تموء بجانب فراشي وتتمسح بي فرابني أمرها وأهمني همها، وقلت: لعلها جائعة، فنهضت وأحضرت لها طعاما وعافته وانصرفت عنه. فأدركت غرضها وعرفت أنها تريد أن أفتح لها الباب، فأسرعت بفتحه فما وقع نظرها على الفضاء، ورأت وجه السماء، حتى استحالت حالتها من حزن وهم إلى غبطة وسرور، وانطلقت تعدو في سبيلها. وأنشأت أفكر في أمر هذه الهرة، وأعجب لشأنها وأقول: ليت شعري هل تفهم هذه الهرة معنى الحرية، فهي تحزن لفقدانها وتفرح بلقياها؟ أجل، إنها تفهم معنى الحرية حق الفهم، وما كان حزنها وبكاؤها وإمساكها عن الطعام والشراب إلا من أجلها، وما كان تضرعها ورجاؤها وتمسحها وإلحاحها إلا سعيا وراء بلوغها».
لم تكن العبرة بالطعام والشراب، بل كانت بالباب، ولم يطل بكاتبنا التفكير كثيرا، هو المتيم بفضاءات الحرية التي تمنحها الكلمة، ليتفطن إلى أن الهرة لم تكن تتوق إلى أشباح الحرية بقدر ما كانت تتوق إلى الحرية نفسها. نعم… الهرة كانت جائعة، ومتعطشة، لكن جائعة ومتعطشة لغاية لا للوسيلة. الهرة، لا الإنسان تلك التي اختارها المنفلوطي عبرة لمن يعتبر على نمط من سبقه من سلالة كتاب العبرة بالحيوانات ليسقط عن الحرية تمثلاتها الزائفة وتمثيلياتها، وليقيم بدلها السؤال الجوهري فيوجهه إلى الحيوان الناطق، إلى الإنسان: ماذا فعلت بعقلك؟ ما الذي فعلته بالعقل البشري؟ أكثر من سؤال. مساءلة. الحرية المسلوبة، المعتدى عليها، المحشورة في زاوية، المقصورة في مساحة مسيجة، في الميدان غير «الموسع» الذي فرضه «الحيوان الناطق». لنستمع مرة أخرى:
«من أصعب المسائل التي يحار العقل البشري في حلها: أن يكون الحيوان الأعجم أوسع ميدانا في الحرية من الحيوان الناطق، فهل كان نطقه شؤما عليه وعلى سعادته؟ وهل يجمل به أن يتمنى الخرس والبله ليكون سعيدا بحريته، كما كان سعيدا بها قبل أن يصبح ناطقا مدركا؟». بيت القصيد هنا، لقد أسقط العقل البشري عن الحرية حقيقتها: الطريق إلى السعادة. سقط العقل البشري في قفص الاتهام لأنه أبعد الحرية عن كرامة الفرد، فقد خلق الاستبداد. حينها جاز التساؤل في لغة تحذيرية أقرب ما تكون إلى الفرصة الأخيرة: هل باتت «سعة الميدان» كامنة في عودة إلى «الحيوان الأعجم»؟
لقد أسقط العقل البشري عن الحرية حقيقتها: الطريق إلى السعادة… سقط العقل البشري في قفص الاتهام لأنه أبعد الحرية عن كرامة الفرد، فقد خلق الاستبداد
وهل استحال النطق «شؤما» وصار أحرى بالحيوان الناطق «الخرس» بل «البله» (وإن كانت الهرة لم تسكت وكانت في منتهى الذكاء!) كمعبر وحيد إلى الحرية والسعادة؟ «ليست جناية المستبد على أسيره أنه سلبه حريته – يضيف المنفلوطي – بل جنايته الكبرى عليه أنه أفسد عليه وجدانه، فأصبح لا يحزن لفقد تلك الحرية ولا يذرف دمعة واحدة عليها».
الهرة كانت ثورية… فقد كافحت أبرز طبائع الاستبداد عندما رفضت أن تؤسر في قيودها، في ذلك «الميدان» الذي يمنح فيه لها الأكل والشراب والذي أدركت أنه لم ولن «يوسع» لها أبدا. في المقابل، لا يدرك الإنسان، بل لم يدرك أصلا، حجم حريته المسلوبة لدرجة أنه عجز حتى عن الترحم عليها، فالمستبد «أفسد عليه وجدانه» محولا إياه من مخير إلى مسير. عندها، جاء الاستنتاج كوقع الصاعقة:
«لو عرف الإنسان قيمة حريته المسلوبة منه وأدرك حقيقة ما يحيط بجسمه وعقله من قيود، لانتحر كما ينتحر البلبل إذا حبسه الصياد في القفص، وكان ذلك خيرا له من حياة لا يرى فيها شعاعا من أشعة الحرية ولا تخلص إليه نسمة من نسماتها».
كلمات صادمة، لا وجه لتدارك رسالتها سوى باستخلاص العبرة من ذلك البناء النظري الذي وضعته الفلسفة التنويرية والتي سمته مع جان جاك روسو «حالة الطبيعة» تلك المقولة التي ألمح إليها المنفلوطي – المتيم بالأدب الفرنسي، داعيا إلى إنسانية جديدة تمر عبر تصحيح وجهة مكتسباته التي حرّفها الاستبداد أي بعبارة أخرى، الإنسان نفسه. كان يأكل ويشرب كل ما تشتهيه نفسه، وما يلتئم مع طبيعته، فحالوا بينه وبين ذلك، وملأوا قلبه خوفا من المرض أو الموت، وأبوا أن يأكل أو يشرب إلا كما يريد الطبيب، وأن يتكلم أو يكتب إلا كما يريد الحاكم السياسي، وأن يقوم أو يقعد أو يمشي أو يقف أو يتحرك أو يسكن إلا كما تقضي به قوانين العادات والمصطلحات». لم تفقد مقالات الأدب الاجتماعي التي نشرها المنفلوطي في صحافة زمنه حداثتها ولا كتابه الشهير «النظرات» التي ضمها إياه لاحقا. وكم بقي حديثا معاصرا آنيا شعاره الذي ختم به مقاله: «لا سبيل إلى السعادة في الحياة إلا إذا عاش فيها الإنسان حرا مطلقا، لا يسيطر على جسمه وعقله ونفسه ووجدانه وفكره إلا أدب النفس».
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
“القدس العربي”