لثني موسكو عن المزيد من الاستفزازات التي تُعرّض قوات التحالف للخطر، من الضروري أن يثبت الغرب أن لديه خيارات عسكرية وسياسية أخرى في سورية.
في 23 و26 تموز (يوليو)، أطلقت طائرات عسكرية روسية قنابل مضيئة على طائرتين أميركيتين من دون طيار من طراز “إم كيو-9 ريبر” في شرق سورية، مما ألحق الضرر بالطائرتين الأميركتين. وجاءت هاتان الحادثتان في أعقاب اشتباك وقع في 16 تموز (يوليو)، قامت فيها طائرة حربية روسية من طراز “سو-35” بمناورات على مسافة قريبة جداً من مروحية توربينية أميركية من طراز “إم سي-12″، لدرجة أنها عرّضت “قدرة الطاقم على تشغيل الطائرة بأمان” للخطر بعد تحليقها من خلال منطقة الاضطراب الهوائي الذي خلفته الطائرة الروسية النفاثة.
وفي الشهر الماضي وحده، أعلن الجيش الأميركي عن ثماني حالات مختلفة من المضايقات العسكرية الروسية في سورية. ووصلت التوترات إلى حد أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أفاد لوكالة الأنباء الروسية الحكومية “تاس” في 30 تموز (يوليو) بأن “روسيا مستعدة لأي سيناريو، ولكنها لا تريد صداماً عسكرياً مباشراً مع الولايات المتحدة”، وأحال القضية إلى آلية فض الاشتباك العسكري بين الولايات المتحدة وروسيا في سورية.
تعتبر هذه الحوادث الأحدث فقط في سلسلة من المؤشرات التي تشير إلى تصعيد موسكو الأفقي لنزاعها مع واشنطن، من أوكرانيا إلى سورية. والدليل المباشر على ذلك هو حرف “Z” المرسوم على الطائرة الروسية التي ألحقت أضراراً بالطائرة الأميركية المسيّرة في 23 تموز (يوليو)، وهو العلامة التي استخدمتها القوات الروسية في غزوها لأوكرانيا.
وتأتي أحداث تموز (يوليو) الثمانية مباشرةً في أعقاب قمع الرئيس بوتين لتمرد قوات “فاغنر” في روسيا، والتي تشير تقارير عملياتها في سورية إلى أن وزارة الدفاع الروسية استولت عليها. وفي حين شهد العام 2022 ارتفاعاً طفيفاً في الحوادث بين القوات الأميركية والروسية، إلّا أن التصعيد الأخير بدأ في الواقع في آذار (مارس) عندما انتهكت الطائرات الروسية المجال الجوي فوق “حامية التنف العسكرية” الأميركية أكثر من 25 مرة في شهر واحد.
منذ دخول الجيش الروسي إلى سورية في العام 2015، تم التعامل مع هذه المشاكل بنجاح عبر “الخط العسكري الساخن” بين الولايات المتحدة وروسيا لفض النزاعات. ولكن لسوء الحظ، وفقاً لبعض التقارير، أصبحت اتصالات روسيا عبر هذا الخط متقطعة منذ أيلول (سبتمبر) الماضي.
وكما هو متوقع، يزعم المسؤولون الروس أن الولايات المتحدة هي في الواقع الطرف الذي يقوم بالتصعيد -بل ويقوم أيضاً بتدريب عناصر من تنظيم “داعش” في “حامية التنف” الأميركية. ووفقاً لتصريحات الأدميرال أوليغ غورينوف، نائب رئيس “المركز الروسي للمصالحة بين الأطراف المتحاربة في سورية”، في 29 تموز (يوليو)، فقط “قامت طائرات التحالف (الذي تقوده الولايات المتحدة) بـ23 مواجهة خطيرة على مسافة قريبة مع طائرات القوات الجوية الروسية حتى الآن هذا العام”. ويشمل ذلك 11 حادثة تعرضت فيها الطائرات الروسية “لأنظمة توجيه الأسلحة التي أدت إلى التشغيل التلقائي لأنظمة الدفاع على متن الطائرات وإطلاق النار على أهداف حرارية كاذبة”، بما في ذلك “حادثتان من هذا القبيل في نيسان (أبريل)، وواحدة في أيار (مايو)، وأربع في حزيران (يونيو)، وخمس في تموز (يوليو)”.
فما الذي دفع موسكو إلى اتخاذ قرار بالتصعيد ضد الولايات المتحدة في سورية مع تزايد خسائرها في أوكرانيا؟ في حزيران (يونيو) 2022، عزا الجنرال الأميركي مايكل كوريلا الموقف العسكري الروسي إلى عودة الجنرال ألكسندر تشايكو إلى سورية بعد فترة قيادته المضطربة للقوات الروسية في أوكرانيا. ولكن، كيف يمكن قراءة عمليات صنع القرار الأخيرة في موسكو، وكذلك التقارير عن زيادة التواطؤ بين الجماعات المدعومة من روسيا وإيران وسورية في سورية؟
قرارات السياسة الأميركية ذات النتائج العكسية
من المؤكد أن قرارات السياسة الأميركية تجاه سورية التي غيرت السياق السياسي في البلد لم تلعب دورا مساعدا. ففي أعقاب الزلزال المدمر الذي وقع في 6 شباط (فبراير) على طول الحدود التركية السورية، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية “الرخصة العامة 23″، التي سمحت بالمعاملات التي يتم تحديدها على أنها أعمال “إغاثة من الزلزال” بموجب العقوبات الأميركية الحالية المفروضة على سورية.
في حين كانت هذه الرخصة مبررة في ظل ظروف الدمار والاحتياجات الإنسانية في سورية، فإن صياغتها كانت فضفاضة بشكل خاص. ولم يتم تحديد أي تعريف لما يشكل “إغاثة من الزلزال”، وقد سمحت بالتعامل مع “الحكومة السورية” (المعروفة أيضاً باسم نظام الأسد) على الرغم من سجلها الخاص بتحويل مسار المساعدات الإنسانية بعيداً عن معارضيها، وسمحت بفترة أمدها ستة أشهر بدلا من الأشهر الثلاثة المعتادة.
وتعارض السياسة الأميركية الرسمية التطبيع مع الحكومة السورية، لكن الحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة اعتبروا الرخصة إذنا بتطبيع العلاقات معها، مما أدى إلى عودة سورية إلى جامعة الدول العربية في قمتها الأخيرة التي انعقدت في أيار (مايو) الماضي في جدة. وفي ظل الترحيب مجدداً بعودة سورية إلى الحظيرة العربية وبقاء مشروع روسيا للتقارب التركي السوري قضية مفتوحة، فإن موسكو لم ترَ الرخصة كإذن لحلفاء الولايات المتحدة بالتعامل مباشرةً مع الحكومة السورية فحسب، ولكن أيضاً كأحدث إشارة إلى أن واشنطن لا تهتم كثيراً بالسياسة تجاه سورية، وأن الوقت قد حان لإخراج القوات الأميركية من البلد. وكما حصل في الشهر الماضي، تستخدم روسيا حق النقض ضد أي قرارات لـ”مجلس الأمن الدولي” بشأن استمرار المساعدات عبر الحدود.
ولم تكن التصريحات الأميركية الأخيرة التي أعلنت فيها واشنطن أنها لن تغادر سورية، إلى جانب تنديدها بالتصعيد الروسي في شرق سورية، كافية لردع موسكو. وفي حين أن العمل العسكري هو أفضل طريقة لتوجيه الرسائل إلى الخصم، إلا أنه محفوف بالمخاطر، وهو ما يمكن أن يفسر تحفُّظ البيت الأبيض المستمر تجاه تسليط الضوء على أن الطيران الروسي ألحق الضرر بطائرتين أميركيتين من دون طيار في الأيام الأخيرة.
أفضل طريقة لردع موسكو
في سورية
إن أفضل طريقة لردع موسكو عن التصعيد مع واشنطن في سورية هي تغيير السياق السياسي هناك. يجب على واشنطن أن تُثبت بالأفعال وليس بالأقوال فقط أنها تعارض الحلف مع الكرملين في دمشق.
وتشمل الفرص المتاحة للقيام بذلك التمديد المحتمل “للرخصة العامة 23″، التي من المقرر أن ينتهي العمل بها في 8 آب (أغسطس). وفي حين أن نوعاً من تخفيف العقوبات قد يكون مناسباً حتى الآن للتعامل مع الدمار اللاحق بشمال شرق سورية، إلّا أن على الإدارة الأميركية التركيز على استخدام الاستثناءات الموجودة مسبقاً والتي سبقت “الرخصة العامة”، وصلاحيات الإعفاء من العقوبات المفروضة بموجب “قانون قيصر”، وعلى العمل مع المصارف على تحديد المعاملات المسموح بها في سورية، وتمكين تدفق المساعدات الإنسانية الحقيقية. وإذا جرى تمديد “الرخصة” مجدداً، يجب أن تقتصر مدتها على الأشهر الثلاثة المعتادة، ويجب أيضا تحديد معنى مصطلح “الإغاثة من الزلزال” بوضوح، وإنهاء التعامل مع نظام الأسد.
سيكون ذلك رداً مناسباً على رفض روسيا الأخير تجديد قرار المساعدة عبر الحدود، والسماح لواشنطن بإعداد خطة بديلة مناسبة مع المنظمات الإنسانية غير الحكومية في المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومة في سورية. لن يتم ثني روسيا عن المزيد من التصعيد الأفقي الذي يعرّض القوات الأميركية وشركاءها هناك للخطر، ولن تشارك في النهاية في المفاوضات من أجل السلام في أوكرانيا، إلا من خلال الإثبات لموسكو أن لدى واشنطن والغرب خيارات عسكرية وسياسية في سورية.
*أندرو جيه. تابلر: زميل “مارتن ج. غروس” الأقدم في برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، والمدير السابق لشؤون سورية في “مجلس الأمن القومي” الأميركي. يركز في بحوثه على سورية والمصالح الأميركية في بلدان المشرق العربي. نشر هذا المقال في الأصل بالإنجليزية على موقع “المجلة” وترجمه إلى العربية “معهد واشنطن”.
“الغد”