«مملكة النمل» عنوان يبدو غريباً بعض الشيء، لكن بعد مُطالعة أحداث الفيلم ومُعايشتها تتضح العلاقة بين العنوان والموضوع، فكل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية صار يحتمل كل التأويلات والقراءات السياسية والفلسفية في ضوء الواقع القاسي الذي يعيشه المواطنون الفلسطينيون في الأراضي المُحتلة، فلا غرابة إذا تم اقتران حياة النمل وعوالمه الخاصة تحت الأرض بالعوالم الفلسطينية تحت الحصار والأنقاض، وخلف الحواجز والأسوار، من هنا تأتي فكرة العنوان ودلالته البليغة، حيث جماعات النمل تتسم بالنشاط المُفرط والدأب المُعجز في تفسيره، وهي التي تعيش دائماً تحت الخطر. تماماً كطبيعة المواطن الفلسطيني، ذلك الكائن الصلب الذي يتكيف تحت أي ظرف، ولا يكل ولا يمل من المقاومة والسعي الدائم للحفر في الصخور، كي تتسنى له حياة أفضل يعيش فيها كريماً آمناً على نفسه ووطنه، تلك هي أوجه الشبه التي يُشير إليها عنوان الفيلم بكل وضوح ويُعمل فيها رمزية الطرح لتقترب الصورة الإنسانية المراد ترسيخها في العقل الجمعي العربي، كي يصبح تأييد القضية الفلسطينية واجباً حتمياً بمُقتضى التضحيات المبذولة والانتصارات التاريخية والآنية للشعب، الذي يرفض التفريط ويأبى الانسحاب من ساحة القتال الدائر على مدار الساعة في القدس وجنين وغزة والضفة، وغيرها من مناطق اللهب وبؤر الحرب المُستعرة نيرانها.
الفيلم الذي استغرق تصويره نحو 7 سنوات وأفنى فيه المخرج التونسي الكبير شوقي الماجري مزيداً من الوقت والجهد، واحتفى به مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2012، عاد للظهور مُجدداً على القنوات المصرية الفضائية كواحد من أهم إنجازات المُخرج الإبداعية، لاسيما أنه يوثق لمرحلة مهمة من مراحل المواجهة بين المقاومة الفلسطينية وآلة الحرب الإسرائيلية بعنفها وقسوتها وجبروتها، على خلفية حقيقية أو افتراضية لقصة رومانسية إنسانية كتبها شوقي الماجري مع صديقة الفنان المسرحي خالد الطريفي، استعرضا من خلالها مُعطيات الحياة القاسية المفروضة بقوة السلاح على الأشقاء في الأراضي المُحتلة. وتتمحور القصة حول الزوجين الشابين، مُنذر ريحانة وصبا مبارك اللذين يحاولان رسم حياة سعيدة لهما، مُتحديان كل أشكال القمع والقهر الصهيونيين، وبالفعل يُتممان الزواج في أجواء يشوبها الخوف والحذر، خارج منطقة القتال، ورغم حرصهما المُتناهي تطالهما يد الغدر الصهيونية فتغتال فرحتهما بإيداع الزوجة السجن ومطاردة الزوج، لأن فعل الزواج والإنجاب أمر مُقلق بالنسبة لإسرائيل، لأنه يعني ديمومة المقاومة والقتال.
وتمضي أيام الزوجة صبا مبارك في سجن الاحتلال ثقيلة مُعتمة، لا يضيء لياليها حالكة الظلام غير مجيء المولود الصغير سالم، الذي يُمثل امتداداً طبيعياً لجيل المقاومين والفدائيين، ويُبرر بالفعل انزعاج وقلق المُحتل، وهنا يوصل المخرج الأحداث بعضها ببعض بتتابع الأزمنة والسنوات وتوالي الأجيال، موقناً أنه لا سبيل لهُدنة أو تهدئة إلا بالجلاء عن البقاع المُحتلة والأوطان، فالأرض الطيبة تُنبت أبطالاً وفرساناً يوصلون الماضي بالحاضر ويتنبؤون بالمستقبل، وهو الدرس الذي لقنته جليلة زوجة مُنذر ريحانة للضابط الإسرائيلي عابد فهد، وهو يحاول إرغامها بالقوة لترشد عن مكان زوجها الفدائي الهارب الذي يخشى غيابه أكثر مما يخشى حضوره.
وكما هو مُتضمن في العنوان، فإن الواقع الفلسطيني كمملكة النمل يعج بالصراعات التحتية، ويعمل كل من فيه بكل طاقته كي يتغلب على عوامل الفناء بخلق مُعطيات طبيعية للبقاء فلا يُبالي بهزيمة أو انكسار مهما بلغت حدة القتال وعظمت دسائس المؤامرة من حلفاء الكيان الصهيوني الواقفين على خطوط الدماء والفناء. ويأتي يوم آخر من أيام المواجهة وينتفض مع جموع الأطفال الطفل الصغير «سالم» ثمرة زواج البطلين بعد بلوغه سن العاشرة، ولأنه سليل الشجاعة والفداء يحمل الحجر بيده الصغيرة ويتقدم الصفوف فتصيبه رصاصة وجهت إلى صدره فيسقط صريعاً، وبينما هو مُلقى على الأرض يذهب الجد جميل عواد للتفتيش عنه بين الصبية والشباب فلا يجده، فيهيم الرجل العجوز على وجهه يردد وصاياه للطفل الذي غالبه الحماس فلم يأخذ حذرة من الرصاصة التي استهدفت روحه وهو الطفل البريء الذي ودع بالأمس صديقه في انتفاضة مُماثلة.
إنها لوحات الموت والاستشهاد رسمتها مشاهد المخرج المُبدع شوقي الماجري، لترينا كيف يراهن الفلسطينيون على أعمارهم لتحقيق أمنية الاستقلال والنصر، في غيبة كل المواثيق والقوانين الدولية، وفي النهاية لا يتبقى من دلالات الصمود سوى الفرح المُختلس من أحزان الموت الجاثم على صدر الوطن، وحكايات الجدات والأجداد للأحفاد عن بسالة آبائهم كي يرثوا حق الوجود والخلود ويحفظوا الأرض التي أنبتتهم.
وقد جسدت الفنانة الأردنية الكبيرة جولييت عواد نموذجاً مهماً في أدائها التمثيلي المُتقن والصادق للمرأة الفلسطينية، التي تختزل كل معاني القوة والصبر في صمودها ووعيها بالمرجعيات التاريخية المنقولة عن إرث السابقين من حكايات، وبطولات، وغزوات وتضحيات. وتنتهي الأحداث ويُغلق الكادر السينمائي على المعنى الأسمى لحق الشعب الفلسطيني في الحياة، فهو الجدير بها على أرضه الطاهرة المروية بدماء الشهداء.
كاتب مصري
“القدس العربي”