على موقع بارز داخل المدينة الجامعية في العاصمة الفرنسية، حيث عشرات البيوتات التي شيدتها الأمم خصيصاً لإقامة طلابها الدارسين في جامعات باريس؛ ثمة البيت الألماني الذي يتصف بخصوصية تاريخية وثقافية، وربما دينية على نحو ما، لأنه يحمل اسم الشاعر الألماني الشهير كريستيان يوهان هنريش هاينة (1797-1856).
جانب أوّل في الخصوصية التاريخية أنّ المهندس ألبرت سبير (الذي يُلقّب بـ”معماري هتلر”) هو الذي تولى الاتصالات الأولى لتشييد البيت، الأمر الذي ماطل الفرنسيون في إقراره خشية تجييره لصالح المناخات النازية المتصاعدة في ألمانيا؛ فلم تبدأ أعمال البناء حتى مطالع الخمسينيات بفضل جهود الطلاب الألمان، وافتُتح البيت في سنة 1956 بحضور الرئيس الفرنسي يومذاك رونيه كوتي، لأنّ ذلك السكن الجامعي كان أوّل تمثيل رسمي على الأرض الفرنسية لألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية. الجانب الثقافي تمثّل في تغيير تسمية المبنى من “البيت الألماني” إلى “بيت هنريش هاينة”، في سنة 1972؛ تكريماً لشاعر لا يكفّ الألمان عن تلاوة وترتيل قصائده الغنائية البديعة، خصوصاً تلك التي تحوّلت إلى مقطوعات موسيقية على يد موسيقيين كبار من أمثال شومان وشوبيرت ومندلسون؛ وكان القرار سليماً ومنتظَراً ومقدَّراً. وأمّا التفريع الديني خلف هذه الخطوة الثقافية فقد انعكس في حقيقة أنّ هاينة ولد في دسلدورف لأسرة يهودية، وحمل اسم هاري بن سيمون هاينة، لكنه اعتنق الديانة المسيحية وهو في الثامنة والعشرين من عمره كي يحصل على وظيفة إدارية و”ينتسب إلى هذه الحضارة الغربية”، كما قال.
وكان قد تتلمذ على يد هيغل، وصادق كارل ماركس (الذي استقى من هاينة العبارة الشهيرة التي تصف الديانة المسيحية بـ”الأفيون الروحي”)، كما عاشر كبار الأدباء الفرنسيين حين نفى نفسه إلى فرنسا، وبقي فيها حتى وفاته. لكنه، في عرف تيّار عريض من المثقفين اليهود، بقي يُحمّل صفة اليهودي/ معتنق المسيحية الأكثر إثارة للسجال والجدل؛ ليس بسبب ما عُدّ ارتداداً عن الديانة فحسب، بل لأنه أطلق العبارة الشهيرة القاطعة: “اليهودية ليست ديانة. إنها كارثة”. أكثر من ذلك، يتابع خصومه من الكتّاب اليهود والصهاينة منهم على وجه الخصوص، كتب هاينة مسرحية بعنوان “المنصور”، تتناول اضطهاد المسلمين في إسبانيا أيّام محاكم التفتيش، وتسكت عن اضطهاد اليهود في المكان ذاته والفترة ذاتها.
إلى هذا، ليس مدهشاً أن يعثر المرء على سجال من طراز معاكس، على غرار كتاب بعنوان “هاينة: حياة مزدوجة”، يسوق فيه الإسرائيلي إيغال لوسين نتيجة مضادة تماماً للرأي الشائع، ويجزم أنّ هذا الرجل كان يهودياً أصيلاً (استناداً إلى عبارة شهيرة أخرى أطلقها، تقول: “لن أعود إلى الديانة اليهودية لأنني لم أتركها في الأساس”)؛ وكان من كبار المنذرين بالفكر الصهيوني، بل كان لا يقلّ صهيونية عن هرتزل نفسه!
هنالك، بالطبع، افتراضات لا تخلو من وجاهة، وبراهين معتمدة على هذه العبارة أو تلك الواقعة، وهذا الموقف أو ذاك النصّ. وثمة اتكاء واسع على مسألتين: أنّ هاينة اعتنق المسيحية مكرهاً لا راغباً، وأنّ السلطات النازية فهمت هذه الحقيقة فوضعت أعماله في عداد 25 ألف كتاب أُحرقت في برلين سنة 1933. بذلك يستخلص لوسين أنّ هاينة ــ الذي كتب يدافع عن ظلم اليهود في قضية الضابط الفرنسي اليهودي دريفوس، وفي قضية “فطير صهيون”، واقعة دمشق الشهيرة ــ لا يمكن إلا أن يكون يهودياً، وصهيونياً أيضاً وأوّلاً.
ولكن… مَن هم هؤلاء الذين يسعي لوسين إلى إقناعهم بيهودية هاينة؟ أهم اليهود أنفسهم، أم سواهم من أبناء الديانات الأخرى؟ وما الهدف، في نهاية المطاف؟ وما الذي سيتغيّر في نصّ هاينة إذا تأكّد المرء أنه اعتنق المسيحية طواعية، أم أُكره على ذلك؟ مثل هذه الأسئلة لا تبدو هاجساً مركزياً، ولا فرعياً في الواقع، حين يقلّب المرء الأمر في عشرات الحجج التي يسردها الكتاب في مسعى البرهنة على أنّ هاينة عاش حياة مزدوجة، مسيحية ــ يهودية في آن. إذْ، في نهاية المطاف، أليس من الثابت أنّ هاينة سخر من الحياتَين معاً، في آن أيضاً، وعلى قدم المساواة ربما؟ ألا تجترّ هذه الحال سجالات قديمة حول أسئلة شائكة يسير بعضها هكذا، مثلاً: ماذا يمثّل اليهودي في الثقافة (الغربية) المعاصرة؟ ما الذي سيتغيّر في شعر هاينة، إذا تبيّن أنه كان هاري بن سيمون أكثر من كونه كريستيان يوهان هنريش؟ وما فائدة الغرق في 752 صفحة من تاريخ اليهود (حسب “موسوعة الحضارة اليهودية في القرون الوسطى”، تحرير نورمان روث)، إذا كانت الحصيلة لا تخرج عن هذه الدائرة الضيّقة الأولى إلا لكي تدخل في دائرة ثانية أضيق، ولكن لا ثالث لها؛ أقرب إلى تكريس حالة أفيونية من حول ديانة الشاعر، بدل قصائده ومسرحياته ومقالاته النقدية ومذكراته ورحلاته؟
الأرجح، من زاوية العزاء على الأقلّ، أنّ غالبية الطلاب الألمان الذين يقيمون في “بيت هاينة” الباريسي سوف تعنيهم استعادة شاعر تنويري متمرد ساخر، عاش منفياً في باريس قرابة ربع قرن؛ أكثر، بكثير ربما، من تدقيق طويته الدينية.
“القدس العربي”